الخميس، 3 يوليو 2014

إبستومولوجيا باشلار في مواجهة الفلسفة: مزاوي محمد



La philosophie du non
"إن الفيلسوف يطلب ببساطة من العلم أن يمده بأمثلة لإثبات النشاط المتناغم للوظائف الفكرية، ولكنه يعتقد أن بمقدوره دونما حاجة إلى العلم، وقبل العلم، تحليل هذا النشاط المتناغم."
Gaston bachelard «La philosophie du non» Paris 1981 P3 
إن المتمعن في هذا القول لا يمكن إلا أن يلاحظ الطابع النقدي الذي يطبع التفكير الباشلاري، والذي يميز أسلوبه في الكتابة كما في التفكير، والواقع أن القارئ لكتاباته يعي أكثر من غيره، أن باشلار منذ أن شغل كرسي تاريخ و فلسفة العلوم بجامعة السوربون لم يكف فيها يوما عن مهاجمة الفلاسفة ومجادلة المذاهب الفلسفية المختلفة على امتداد عقود طويلة، انصرف اهتمامه فيها إلى تأسيس إبستومولوجيا العلوم المعاصرة.
لقد انصرف اهتمام غاستون باشلار مند وقت مبكر من حياته إلى تأسيس إبستمولوجيا جديدة ومختلفة عن تلك الإبستومولوجيا التي وضعت مع الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيريه، 1864-1908 هذا الأخير الذي قسم الفلسفة إلى قسم أنطولوجي وآخر إبستمولوجي.
فمند ديكارت إلى سارتر مرورا بكانط وهيجل وهيوم وبرغسون ووليام جيمس وماخ وبوانكاريه وما يرسون ويغيرهم من أعمدة الفكر الفلسفي الحديث، فإنه لا أحد من هذه المعالم البارزة في تاريخ الفكر الحديث وبخاصة الفكر الفلسفي، أفلت من هذا النقد وهذا الجدال ضد "علم" الفيلسوف، لأن هذا الأخير يظل متمسكا دائما بحلول قديمة لمشاكل علمية جديدة، حيث يتشبث بأفكار مذهب مّا. بل إنه لا يطلب فيه التغيير والتجديد بقدر ما يظل مكتفيا بتكرار إشكالات سابقة وأطروحات ثابتة تجاوزتها هذه الثورات العلمية المعاصرة. 

2- القطيعة كمفهوم مركزي في نقد باشلار للفلاسفة

من هذا المدخل إذن يمكن استحضار مفهوم جديد إنبجس مع الممارسة الباشلارية للمعرفة العلمية، وهنا نتحدث عن مفهوم القطيعة الإبستمولوجية. فماذا يفهم من هذا المفهوم؟
لكن وقبل الإسهاب في الحديث عن القطيعة كما يراها صاحبها (باشلار) ينبغي كمرحلة أولى التميز بين نظرية المعرفة والإبستومولوجيا، إذ أن الأولىla théorie de la connaissance هي عملية تكوّن المعرفة الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقاتها بالواقع، وهي بذلك تبرز اتجاهات عقلانية ومادية ومثالية، وفي المقابل نجد الثانية L’épistémologie التي ينحصر موضوعها في دراسة المعرفة العلمية فقط.
وإذا كانت الإجابات التي تقدمها نظرية المعرفة، إجابات تتميز بالإطلاق والعمومية الشاملة. فأن الإبستمولوجية تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخيا من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة. بل ترى الإبستومولوجيا في التعميمات الفلسفية لنظرية المعرفة، عائقا أمام تطور المعرفة العلمية ذلك أن التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبا في مجال المعرفة العلمية وخاصة حين تضع حدود للعلم. إن الإبستومولوجيا ليست استمرارا لنظرية المعرفة في الفلسفة، بل هي تغيير كيفي في النظر إلى علاقة الفلسفة بالعلم وتجاوز التناقض بين نظرية المعرفة والعلم، ليس هذا فحسب بل إن الإبستمولوجية أتت على أنقاض ما كان يعرف بفلسفة العلم، التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم، وتناولت جملة من الموضوعات أهمها؛ علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكون النظرة الفلسفية إلى الطبيعة والكون.
بعد التطرق بخلاصة شديدة إلى هذا التمييز بين نظرية المعرفة والإبستومولوجيا، نتوجه الآن إلى محاولة حل الإشكال المطروح سالفا، وهو حقيقة القطيعة الإبستمولوجية باعتبارها المفهوم الأساس والمميز للفكر الباشلاري دون غيره من المشتغلين بنظرية المعرفة.
لعل المتتبع للفكر الإبستمولوجي يعي أكثر من غيره أن إشكالية المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية يعتبر من أهم الإشكالات التي اختلف حولها الإبستمولوجيون والفلاسفة: 
حيث نجد فريق نظر إلى مسار العلم على أنه سيرورة متصلة ومستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال، و يعد إميل ميرسون أهم دعاة هذا الاتجاه، بالإضافة إلى وليون برنشفيك، إذ يرى هذا الاتجاه أن كل المعارف العلمية هي في استمرار وتطور واتصال، حيث أن كل معرفة جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخها إذن عبارة عن سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغيير الذي يحدث في العلم إلا تغيير تدريجي.
الواضح إذن أنه لو صح أن المعرفة العلمية هي استمرار للمعرفة السابقة عنها لصح أن يكون اختراع المصباح الكهربائي إستمرار للمصباح العادي. غير أن الأمر ليس كذلك، إذ يعتبر اختراع المصباح الكهربائي ثمرة معرفة علمية يتم التعبير عنها بصيغ رياضية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المنهج العلمي ذاته لا يقوم على الاستمرارية والاتصالية في التطور العلمي إذ أن كتاب ديكارت "مقال في المنهج" لا ينطوي على أي فائدة تذكر في البحث العلمي المعاصر؛ وإن كنا قد ننعت بالمجازفة؛ كما أن منهج فرنسيس بيكون الاستقرائي لم يعد صالحا في تحصيل المعرفة العلمية بالشكل الذي كان عليه من قبل.
وهناك فريق ثاني أعتبر الأكثر قبولا وانتشارا في فرنسا وأوربا وباقي العالم، وهو الفريق الذي يعتبر المسار الذي تشكله المعرفة العلمية ينبني على القطائع، بحيث أن تاريخ العلم هو تاريخ قطع بين المعارف العلمية البالية والمعارف الجديدة، بمعنى أنه التيار الذي ينفي أن تكون المعرفة العلمية امتداد للمعرفة العامية. بل هي انتقال من التجربة إلى العقلنة ومن الملاحظة المضطربة إلى المعرفة العلمية إن الذي يفصل بين هذين النمطين من المعرفة العلمية (المعرفة العلمية القديمة والمعرفة العلمية المعاصرة) هو القطيعة الإبستمولوجية. تعتبر إذن لغة العلم؛ (لغة متجددة باعتبار العلم هو صياغة دائمة للمفاهيم والمصطلحات) ومناهج العلم؛ عنصران ومعياران أساسيان في حدوت القطيعة الإبستمولوجية. ويبدوا ذلك مثلا؛ في الانتقال من المنهج الاستقرائي إلى المنهج الاستنباطي بعدما أصبح الأول عاجزا عن تحقيق وظيفته، ولكن ينبغي أيضا أن نعلم بأن القطيعة الإبستمولوجية تكون دائما مصحوبة بقطيعة نفسية أو عاطفية شديدة الحضور، ولنأخذ على سبيل المثال ما حصل للشعوب الأوروبية عندما اضطرت هذه الأخيرة قبل أن تعي الحداثة ذاتها مع هيجل، إلى أن تقطع مع كل التقاليد الجامدة في القرن السابع عشر. حيث تزامنت بداية هذه القطيعة مع ديكارت وتوجت بالثورة الفرنسية، كما لعبت الاكتشافات الجغرافية والعلمية والتاريخية أيضا دورا مركزيا في القضاء على التصور القديم للعالم، وولادة التصور الجديد على أنقاضه. 
إنه إذا ما عدنا قبل ظهور المصطلح (قطيعة إبستمولوجية) بثلاثمائة سنة سنجد أن ديكارت مثلا يفصل الفكر العلمي بين فكر سابق عن ديكارت وآخر لاحق عنه، حيث عرف المنطق قطيعة جوهرية مع القياس الأرسطي. كما أن باشلار نفسه نجده يتفق مع ديكارت في القول بضرورة الفصل بين المعرفة المباشرة المتشكلة عن طريق الحواس، والمعرفة العلمية التي تجد ممارستها الحقيقية في المختبر. غير أن الاختلاف بين باشلار وديكارت ظل هو المهيمن على تفكير المفكرين، إذ أن باشلار لم يعتقد يوما بوجود عقل أبدي يتجاوز الزمان والمكان كما كان يظن ذلك ديكارت، حيث أن باشلار لم يعد يستطيع أن يؤمن بوجود أفكار فطرية سابقة على التجربة كما كان يفعل ديكارت ولربما لهذه الأسباب نجد باشلار يدعوا إلى تشكيل إبستمولوجيا غير ديكارتية. فهو يدعوا إلى قطيعة حقيقية مع مثل هذه الأفكار، لأن القطيعة الإبستمولوجية تصبح إجبارية عندما يتجمد التراث السابق ويصبح مهيمنا فقط على طريق القوة والهيبة والعطالة الذاتية. 
ونتيجة لكل هذا، نجد غاستون باشلار يثور بشكل جريء على فلاسفة عصره ويتهمهم بالمثالية والتجريدية المنقطعة عن حركة العلم ونبض الواقع، لذلك نجده يدعوا في كتابه «la philosophie du non» إلى تشكيل فلسفة النفي والرفض، أي الفلسفة التي تقاوم وترفض الوضع كما هو عليه وتسعى إلى كشف الجديد، إنها فلسفة النفي، لكنه نفي إيجابي وليس سلبي لأن فلسفة الإذعان والقبول لا تستطيع تحريك الأشياء ولا تؤدي إلى التقدم كما دعا أيضا إلى عقلانية تطبيقية تجد حقيقتها في المختبر، إذ تستمد من البحث العلمي والتجريبي القائم على المشاهدة والفرضيات والتجارب، ثم النتائج وليست العقلانية الفلسفية الغريبة المتعالية والمثالية.
إن الفيلسوف في نظر باشلار لا يراعي تطور العلم، باعتباره يعرف طفرات وثورات سريعة في القرن العشرين، مقارنة مع القرون السابقة. إذ أن العلم في كل فقرة من فقراته يتطلب فلسفة جديدة وكل فيلسوف لا يأخذ ذلك التطور العلمي بعين الاعتبار يحكم على نفسه بالعطالة.
وعموما فأنه إذا ما اعتمدنا على قراءات أبرز تلاميذ باشلار وهو جورش كانغليم سنجد أن إبستمولوجيته تبدو وتنجلي من خلال المبادئ الأساسية الثلاث: 
1- الأولوية النظرية للخطأ بحيث نجد باشلار في هذا المبدأ قريبا إلى نظرة فريدريك نتشه للعلم إذ يقول "إن المعرفة العلمية هي أخطاء تبث نفعها في معركة الصراع من أجل البقاء" (العلم المرح ترجمة محمد ناجي) إذ أنه بالفحص الدقيق للواقع يبدوا أن الحقيقة لا توجد بشكل منفصل عن الخطأ إنها متداخلة بنسيج من الأخطاء وتبقى مهارة العالم تكمن في كيفية انتزاع الحقيقة من هذه البراثين. يقول باشلار في كتابه le nouvel esprit scientifique » « : "لا يمكن تشكيل معرفة علمية صحيحة إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة" وهذا هو أكبر دليل على شراسة الصراع ضد الخطأ من أجل التوصل إلى الحقيقة، وبالتالي إحداث القطائع الإبستمولوجية الجديدة.
2- اعتبار المعرفة العلمية معرفة غير حدسية، لأنها لا تنتج عن طريق الحواس والحدوس. بل إن المعرفة العلمية تنبني على التجربة والممارسة واستخدام آليات القياس العلمي، فالحدس إذن قد يشكل مرحلة أولى في المعرفة العلمية والتي ينبغي التخلص والتخلي عنها بعد ذلك.
3- رفض لكل الأيديولوجيات والأنماط المعرفية التي تأتي من الفوق، من خارج الواقع، لأن فهم الواقع لن يتم عند باشلار، إلا من خلال الواقع ذاته، هذا الأخير الذي يتحرك طبقا لمنطقه الخاص وقوانينه الداخلية، كما ينبغي أن يتم التعامل مع هذا المنطق الخاص، وتلك القوانين، داخل الواقع الحاضر وليس الماضي.

3- لماذا إنتقد باشلار الفلاسفة؟ 

وعموما، فإن النقد اللاذع الذي يوجهه غاستون باشلار إلى الفلاسفة يبدوا بشكل أكثر وضوحا، حينما يعتبر الفلاسفة غير مهتمين بالتطورات العلمية الصعبة. بل إنهم يظلون متمسكين بحلول فلسفية قديمة وبمشاكل علمية بالية، ناسين أن هذه الحلول المنبجسة من إشكالات سابقة ومذاهب ثابتة قد تجاوزتها الثورات العلمية المعاصرة إلى غير رجعة.
إن صورة الفيلسوف التي رسمها باشلار ظلت طيلة حياته متميزة بطابع السخرية، بحيث أنه في الوقت الذي كانت العلوم الفيزيائية والرياضية تشهد تحولات جذرية وسريعة خلال فترة قصيرة بالقياس إلى ماضيها التاريخي، فإن الفلسفة كانت لا تزال كعادتها تنشد بشتى الأشكال والصيغ مجدها في انغلاقها على منظومة ثوابتها التقليدية.
فلماذا إذن هذه السخرية وهذا الجدال الملازمين للتفكير الإبستمولوجي عند باشلار؟ هل ذلك راجع إلى الإقرار بعدم جدوى الفلسفة في انخراطها في دراسة النظريات العلمية؟ بل كيف يمكن للخطاب الباشلاري أن يخلوا من المعرفة الفلسفية؟ 
هذه إذن أهم الإشكـــالات التي ينبغي الإجابة عنها بشكل واضح حتى يتسنى لنا تحقيق الهدف المتوخى من هذا العرض. 
عرفت الفترة التي عاشها باشلار بروزا لأفكار علمية جديدة وتغيرات جوهرية شاملة امتدت إلى الأسس والمبادئ ذاتها التي يقوم عليها هذا العلم او ذلك، إذ شهدت العلوم الفيزيائية تحولا عميقا يتضح بشكل صارخ في الثورة النسبية ثم الثورة الكوانطية وبدايات الميكرو- فيزياء هذا الأمر الذي تطلب من العلماء ليس فقط إعادة تكوينهم عدة مرات، ولكن أيضا تجديد أدواتهم المفاهيمية، وإحداث تحول دهني ونفسي في تفكيرهم. كما عرف العلم الرياضي أيضا تراكما كميا أغنى بنية النظريات الرياضية وأفضى إلى تغيير أساسي في المناهج والمفاهيم هكذا إذن فإن باشلار وجد نفسه في عالم أصيح يطبع معارفه وعلومه الجدّة والثورة والتغيير، ولعل معايشته لهذه التحولات هي التي تترجم تفكيره الإبستمولوجي الذي وجد نفسه فيه يوجه نقدا عميقا إلى تلك النظريات الفلسفية التي تدخل في باب نظرية المعرفة.
يقول باشلار في كتابه "le nouvel esprit scientifique" متحدثا عن النظرية النسبية قائلا: "وعلى هذا الأساس فليس ثمة انتقال بين نظام نيوتن ونظام إنشتاين، نحن لا نمضي من الأول إلى الثاني بتجميع المعارف ومضاعفة العناية بالقياس وبتصحيح المبادئ تصحيحا معينا. إن المسألة تقتضي على العكس من ذلك بذل جهد لتجديد شامل"، هكذا إذن كان العلم الجديد لا يمكن التفكير في إبستومولوجيا بواسطة الاستمرار المتواصل للعلم القديم. غير أن ما يبعث على الدهشة - حسب تعبير محمد هشام- هو موقف الفلسفة ونخص هنا فلسفة بداية القرن الفائت (ميرسون...) حيث ظلت متمسكة بطرقها التقليدية في التفكير باستعمالها لنفس المفاهيم والألفاظ كما كانت تفعل زمن معاصرتها للصرح الفيزيائي النيوتوني، الشيء الذي جعلها تعيش انفصاما بين خطابها المجرد وبين الخطاب العلمي.

4- أوجه الانفصام بين الخطابين العلمي والفلسفي

إذا اعتبرنا أن العلاقة من زاوية باشلار بين الفلسفة وخطاباتها المجردة من جهة والخطاب العلمي الجديد الذي يتغير بشكل مستمر ومتسارع من جهة أخرى هي علاقة انفصام فإلى ماذا يرجع هذا الجمود الفلسفي؟ 
يمكن أن نتحدث عن سببين رئيسين لهذا الجمود:
الأول: يتمثل في أن التعارض بين الخطابين لا يحدث إلا بسبب التشابه الذي بينهما. فالعلوم تعتمد نقس المفاهيم التي تعتمدها الفلسفة. غير أن الاستعمال الفلسفي لهذه المفاهيم يتميز بثقل أنطولوجي، حيث أن الكلمة الفلسفية عند الفيلسوف تنزع دائما بوعي أو بغيره إلى اعتبارها كائنا حقيقيا غير أنه في المقابل نجد استعمال العالم لنفس المفهوم مختلف، حيث يتحدد وجوده داخل منظومة من العلاقات التي يندرج فيها .
أما الثاني: فإنه يرجع إلى كون الفلسفة تصدر في تعاملها مع الممارسة العلمية عن سؤال لا يمكن لهذه الممارسة أن تقدم عليه أي جواب. ذلك أن هناك سؤالا فلسفيا يخص الممارسة العلمية يطرحه العالم بالصيغة التالية: ما هي الشروط التي تجعل من المعرفة التي أنتج معرفة علمية؟ وهو سؤال لا يمكن أن يجد جوابه الدقيق داخل العمل العلمي. أما الفلسفة فتطرح سؤالا أخر لا جواب علمي عليه وهو على الشكل التالي: ما هي الأسس التي تقوم عليها المعرفة العلمية؟ فإذا كان السؤال في الحالة الأولى يرمي إلى تحديد الشروط الموضوعية التي تكون بها المعرفة علمية حقا كما يختبرها العلماء أنفسهم، فأنه في الحالة الثانية يتجاوز مثل هذه الشروط ليبحث عن الأسس الأنطولوجية الدفينة للمعرفة. ومن هذا يتضح أن السؤال ينتج بصيغته تلك عملية تحويل واستبدال تسعى الفلسفة من ورائها إلى تنصيب نفسها: لجنة مراقبة عليا، تفلت هي نفسها من المراقبة على شروط صلاحية المعرفة. غير أن هذا التحويل لا يستقيم فلسفيا إلى عبر سلسلة من الأزواج الميتافيزيقية يحكمها في الأساس التميز بين الفكر والمادة/ الروح والعالم.
يقول باشلار 1884-1962 في المؤتمر الدولي لفلسفة العلوم بفرنسا سنة 1949"إذا تحدث فيلسوف ما عن المعرفة فإنه يريدها مباشر، حدسية. وهكذا ينتهي به الأمر إلى رفع السذاجة إلى مرتبة الفضيلة أو المنهج. ويعتقد الفلاسفة بأن اليقظة الأولى تكون سلفا، ضوءا كاملا، وأن للفكر وضوحا نظريا مسبقا. أما عندما يتحدث الفيلسوف عن التجربة، فأن الأشياء تسير هنا بسرعة، إذ أن الأمر يتعلق بتجربته هو الخاصة، لينتهي به الأمر إلى وصف رؤية شخصية للعالم، كما لو كان بإمكانها بسذاجة أن تجد المعنى الحقيقي للكون بأسره".
إن الفلسفة تعمل على إقامة نوع من التناغم- من وجهة نظر باشلار- والتناسق بين مختلف الأزواج التي تنتجها ومن هنا تحددت إحدى مهام الإبستومولوجيا الباشلارية في نقدها الجدري للفلسفات بتقويضها لهذه الثنائيات الميتافيزيقية لإبطال مفعولها النظري في تحويل الصيرورات الإبستمولوجية الحقيقية للعلوم عن مجاريها الطبيعية، بهدف ترسيخ السلطة النقدية للفلسفة. ولعل أسطع مثال عن هذه الفلسفة هو الذي تقدمه إبستمولوجيا إميل ميرسون التي لم يتوانى باشلار يوما في انتقادها والتنديد بها. 
لقد كثفت فلسفة مايرسون العلمية حول أطروحاتها الأساسية كل المزالق والعيوب المحايثة للنظرية الفلسفية في العلم لذلك نجدها شكلت هدفا مستمرا للجدال الباشلاري، ونموذجا لدراسة النقد الباشلاري للفلاسفـــة والفلسفة بشكل عــــام.


بيبليوغــــــرافيا:
Gaston Bachelard : «la philosophie du non» paris 1981 
Gaston Bachelard : «le matérialisme rationnel» 1980 paris 
Gaston Bachelard : «le nouvel esprit scientifique» (نصوص مقتطفة من الانترنت)
غاستون باشلار: "الفكر العلمي الجديد" ترجمة عادل عوا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع سنة 2002.
غاستون باشلار: "جدلية الزمن" ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1992 الطبعة الثالثة.
محمد هشام: "تكوين مفهوم الممارسة الإبستمولوجية" إفريقيا الشرق 2006 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق