الأربعاء، 9 يوليو 2014

الخيال الكوني الباشلاري : خيال ـ مادة : سعيد بوخليط

بقلم : سعيد بوخليط (المغرب)
boukhlet10@gmail.comمراكش/ المغرب.


La poétique de la rêverie
ونحن نتحدث عن التصور الباشلاري للخيال المادي في علاقته بالكون، لابد من استحضار المفهوم الذي انطوى عليه، كتابه "شاعرية حلم اليقظة" la poétique de la rêverie (1960)، حينما يتبدل العالم في منظور الحالم إلى "فاكهة"، فتتأسس مساحة جديدة بين الذات والأشياء، لا تكتفي بالتأثير والتأثر، لكنها تتجاوز ذلك إلى الاهتمام والاحتضان. يكشف، باشلار عن هذا الموقف الأولاني قائلا : ((فاكهة تتعهد هذا الحالم بعالم، وتدعوه للتواجد داخله، ولمّا يشتغل الخيال الكوني على هذه الصورة الأولى، يصير العالم فاكهة ضخمة. القمر والأرض، هي نجوم حلوة  الطعم، هكذا فالحلم بالعالم من خلال دائريته واستداريته الفاكهية))(1). العالم، مجال للاشتهاء وخلق لنزوات واعية أو لاواعية، تتجاوز الصيغة الشوبنهاورية التي فهمت العالم تمثلا وتصورا، إلى شكل مختلف يخلق ألفة وحميمية اتجاه الذات : ((مع صورة كونية كما في صورة بيتنا، نعيش بهجة الراحة، إنها، تهيئ لنا راحة فعلية ونوعية، تتناسب مع الرغبة والاشتهاء، لذا يجب، إبدال الصيغة العامة للفيلسوف : العالم تصوري، ب العالم شهيتي))(2).

الأشياء والمكونات الكوسمولوجية الباشلارية، تقطع مع حتميتها  المادية كي تضطلع بمحددات حٌلمية، حيث العالم موطن آمن  للذات: ((حين يبتعد حالم أحلام اليقظة عن جل "الانشغالات" التي تعكر  صفو حياته اليومية، ويتخلص من قلق مصدره قلق الآخرين، ثم يصاحب  حقا عزلته، ويكون أخيرا بمقدوره تأمل منظر جميل في العالم  دون احتساب للوقت، فإن هذا الحالم يحس بكائن ينفتح داخله. فجأة، حالم كهذا، حالم بالعالم. إنه ينفتح عن العالم، والعالم ينفتح له. بالتالي، لن نشاهد حقا العالم إذا لم نحلم أولا بما رأيناه))(3). تفقد الموجودات، وضعها المألوف كي تكتسي وظائف أخرى، بحيث يحتم  المتن النقدي الباشلاري، التعامل جذريا مع التعريفات والمفاهيم التي تعطى للعناصر الكونية، هنا تكمن قيمته الجمالية. لقد، ظلت العناصر عند الكوسمولوجيين، مجرد تأسيسات فيزيائية للكون، تشيد نظامه وتصنع قوانينه الموضوعية، أما مع باشلار  فهي رموز شعرية.

غير أن تجربة الانعزال مع باشلار ،لا يقصد بها المنحى نفسه كما ورد عند الاتجاهات اللاهوتية والصوفية، وما جاءت به الاتجاهات العدمية المعاصرة أي ذات سلبية انتهت فاعليتها في العالم. بل على العكس، عزلة بناءة باستمرار، ارتقت باليومي  المألوف إلى لحظة إبداعية زاخرة : ((بالنسبة  لحلم يقظة المنعزل، فإن حالم التأمل الكوني هو الفاعل الحقيقي، لفعل التأمل. الشاهد الأول، عن قوة التأمل. أما، العالم فهو المفهوم المباشر لفعل التأمل))(4). ثم، بناء  ((على المحور الطبيعي لحلم اليقظة الكوني، يروم العالم الحسي نحو الجمالي))(5). بمعنى ثان، الأفق الباشلاري يدافع عن موقع وجودي  مغاير للتقليد الذي عاصره المستند، أساسا على فلسفات آمنت بأن الأشياء والآخر ...، جحيم وعبث. بل حتى منطق التناقض والمواجهة الذي قد تصير إليه علاقة الإنسان بالأشياء عالجه باشلار عن قرب بين صفحات كتابه الأرض برؤية شعرية : ((حلم اليقظة الكوني، يُسكننا العالم. إنه، يخلق لدى الحالم انطباعا، كونه في مأواه الخاص داخل كون مُتخيّل))(6).

إلا أن باشلار في إطار سعيه لإيجاد قوانين ومعايير تحكم الخيال، وضع ترسيمة للعالم،  قياسا إلى العناصر الأربعة الأساسية: الماء، النار، الأرض، الهواء والتي تشكل في نظره مكونات كوسمولوجية جوهرية تحددت وفقها صور الكون. كما، أن الماهية الأنطولوجية للعنصر، تبلور نمطا معينا للخيال. فاتجهت الأبحاث الباشلارية مبدئيا، إلى ربط مختلف الأدباء والشعراء بواحد من العناصر الأربعة، ثم تمييز اللذين يحلمون بطريقة مادية أو ديناميكية.

غاية باشلار ، المنصبة على وضع نظرية جديدة للخيال الأدبي، حتمت عليه استقراء بنية العناصر الأربعة، في إطار تجليات المتون الإبداعية شعرا ونثرا، مستعينا أيضا بالاجتهادات النظرية لحقول معرفية أخرى، مثل : الخيمياء، الأساطير، الرواية...، قصد تبيّن القواسم المشتركة لأنماط الحلم الأساسية : ((الإشكالية الكبرى التي يطرحها علينا، تشير إلى منهجيته في العمل، ثم معرفة كيفية ترتيب  هذه المربكة الضخمة كما هو الخيال، وتمييز لبناته الأساسية))(7). فأقام باشلار ، دعائم نظرية الأمزجة انطلاقا من تمركز أحلام اليقظة على العناصر الكوسمولوجية الأربعة :  الصفراوي (النار)، السوداوي (الأرض)، النخامي (الماء)، الدموي (الهواء)، ولكل من هذه النماذج الأربعة أنساقه المفهومية والمنهجية. وقد أفصح فيلسوفنا الحالم، عن هاجسه منذ كتابه النار، قائلا : ((إذا كانت هناك من فائدة لعملنا الحالي، فهي الإيحاء بترتيب للموضوعات الموضوعية، التي ستهيء تصنيفا للأمزجة الشعرية. لم نتمكن كذلك، من إقامة بناء جيد لنظرية المجموعة، لكنه يظهر لنا حقا وجود بعض الصلة بين نظريتي العناصر الفيزيائية الأربعة والأمزجة الأربعة. في جميع الأحوال، فإن النفوس التي تحلم تحت تأثير النار، الماء والهواء أو  الأرض تبدو مختلفة جدا. بشكل خاص، يبقى الماء والنار، متعارضان حتى في حلم اليقظة. هكذا، من ينصت لمجرى ماء، سيعجز عن سماع غناء الشعل : إنهما لا يتكلمان اللغة ذاتها))(8). ولإثبات ذلك، استعاد باشلار رأي : ((قدماء الكتاب الذين يتمسكون بالعدد أربعة، لأنه يوحد نظريتين منفصلتين، تلك المرتبطة بالعناصر الأربعة والأخرى  المتعلقة بالأمزجة الأربعة))(9). يكشف تعلق الصورة بالماء، النار، الهواء أو الأرض، عن مزاج معين، من تم تبنى باشلار منذ البداية: ((دراسة الأنماط الأربعة للخيال وعلاقة ذلك بالعناصر (...). يكفل العنصر لحلم اليقظة، استمرارية حقيقية : يمد الحالم بصور من نفس العائلة (صور الماء، الهواء أو الأرض) ويساعد على استيعاب العالم الخارجي المتبعثرة أشكاله))(10). كل عنصر : ((يحدد مزاجا، ومن خلال تأمل الحالم لعنصره المفضل مثل مرآة، فإنه يبذل كل ما في وسعه كي ينسجم مع ذاته))(11).

هكذا تشيد الصورة، نتيجة ارتباط الخيال الذاتي بعنصر من العناصر. تحقق المادة للخيال، أفضل وسائل التبلور، لأن الصورة (حسب باشلار لا تمنح نفسها لكي "نراها"، بل تبتغي كذلك "لمسها"))(12). حيث يضفي العنصر على الصورة ـ مجازيا ـ مظهر الوقائعية والحسية ((الخيال في اتصاله بالكون المادي، يستخلص مادة للصورة، مثلما يتسم الخيال المجسد أو "المادي"، بطابع عنصر خاص))(13).

لكن باشلار ، وهو يرصد مسارات المفهوم الذي أسس لجمالية المادة، برزت له حقيقة نقص السبب في الفلسفة الجمالية، مادامت  لم تقدر جيدا كل الخصائص والقوى الفردية للمادة، متسائلا  عن دواعي ربطنا الدائم مفهوم الفردية بالشكل ؟ مميزا في هذا النطاق بين نوعين من الخيال :

ـ خيال، يمنح الحياة للعلة الشكلية.
ـ خيال، يتمسك بمبدأ العلة المادية.

حين ندرس الأشكال، ونسندها إلى مادتها الصحيحة، بوسعنا حينئذ تناول نظرية متكاملة للخيال الإنساني : ((إن نظرية فلسفية للخيال، عليها قبل كل شيء دراسة صلات السببية المادية والشكلية. قضية، يطرحها الشاعر وكذا النحات. فالصورة الشعرية، لها كذلك مادة (...) تدعن في تقييمها لمعنيين : التعمق ثم الاندفاع))(14). مع الحالتين، فإن تأمل المادة، يسمو بهذا الخيال المنفتح.

يُقرّ باشلار إذن، بانطواء الصورة الشعرية على مادة، ثم يضيف فرانسوا بير François Pire بأن مسلمة مادية الصورة التي تقيم علاقة مادة ـ خيال : ((لها مظهران، بحسب اعتبارنا للواحد أو الآخر من حدي العلاقة :
1 ـ المادة "تهذب" الخيال.
 2 ـ الخيال،  يتضمن  مادة))(15).

وبالتأكيد، فالعنصر الكوسمولوجي، هو من يعمل على تجلية العلة المادية للصورة : ((الخيال،  في الآن ذاته مادي بعلته وطبيعته، أي أنه من أجل إعادة تخيل صورة شاعر ما، لا يكفي رسمها ذهنيا، بل يجب إعطاؤها الكثافة والرخاوة، وبشكل عام صفات العنصر  الذي تساهم فيه))(16).

لقد تفاعل باشلار ، مع العناصر الكونية التي لها أهميتها في بناء النموذج الممكن لفيزياء المتخيل، والقطع مع أسباب الحتمية البسيكولوجية والاجتماعية التي لا تعير أي اهتمام سواء "لمقاومة المادة" أو ذوبان المبدع في هذه المادة، وبالتالي بناء مفهوم ما سماه باستقلالية الرمز، الذي أخذ منحيين :

ـ حينما وظف التحليل النفسي للعناصر، فقد استثمر هذا التعبير ضد المحللين النفسيين، كي يبرهن على أن للخيال حتمية خاصة ونسقية ذاتية.

ـ أما مع الظاهراتي، فسيعارض بحداثة الصور، قوانين الخيال المزعومة، في أفق إقامة بسيكولوجيا مباشرة للخيال، لأن الصورة ذاتية.

جوهر المادة، يُحدد شكلها الجمالي بناء على رؤية للخيال المادي، ينطلق من مبدأ تحكم المادة في الشكل. بالتالي، شكلت أطروحة "الماء والأحلام" (1942) (("محاولة في الجمال الأدبي"، هدفها الأهم "تحديد جوهر الصور الشعرية ثم ملاءمة الأشكال للمواد الجوهرية"))(17).. يرسم، العنصر المادي للصورة ماهيتها وجوهرها، كما يمنح حلم اليقظة ثباتا كافيا كي نستنتج منه عملا إبداعيا، ولا يبقى فقط مجرد لحظة عابرة: ((يلزم العنصر المادي تبيان جوهره. الخاص وقاعدته الذاتية ثم شاعريته النوعية. وليس عبثا، أن جعل الفلاسفة الأولون من هذا المسلك اختيارا قطعيا. فقد ضموا إلى جانب مبادئهم الشكلية، أحد العناصر الأربعة الأساسية التي ستصبح أيضا سمات للأمزجة الفلسفية))(18).لكن سواء استعار باشلار ، التقسيم الرباعي من الفلسفة اليونانية أو الخيمياء، وأي علم آخر ...فإن اختزاله للعناصر في مكونات أربع، ينسجم أساسا مع السياق المقدماتي الذي وضعه لنفسه، وأقصد :


ـ تأسيس فيزياء للخيال.
غاستون باشلار (1884-1962)

ـ فهم الخيال في ذاته، مما يفترض معه استلهام "نموذج العلوم المخبرية والدقيقة" ـ مجال التفكير الأول ل باشلار ـ وفي مقدمتها التوضيح المفهومي الموضوعي للخيال، فجاءت نظرية العناصر الأربعة الباشلارية والأمزجة الجمالية تلبية لهذا الأمر.

تناول الخيال في زمان حضوره، انطلاقا من الصورة، فأحدث باشلار بهذا التدبير ثورة شبيهة بمنجزات كوبرنيك Copernic، وكان يشعر في قيرورة نفسه، بأنه يقتسم نفس المجد : ((فكما أبطل الفلكي الكبير نظام بطليموس وبالتالي دوران الشمس حول الأرض، سيتباهى ـ باشلار ـ بكونه قلب العلاقات التي أقامها التحليل النفسي طويلا بين الخيال، ثم الذاكرة والإدراك من جهة ثانية (...). بالفعل، منهجية كهاته في الرؤية، حديثة جدا. غير أن باشلار عليه أيضا اقتسام أمجاد "ثورته الكوبرنيكية" : مع كبار المحللين النفسيين الذين مهدوا له الطريق عبر ملاحظاتهم حول الأساطير والأحلام))(19).

في سبيل إذن إقامة فيزياء للخيال، من خلال الوصف الباشلاري لارتباط الأحلام  بجواهر الأشياء، سيضع نظريته العناصر الأربعة والتي أفصح عنها منذ كتابه النار، ثم توخى بعد ذلك تقديم وصف منهجي لخيال العنصر كما دشنته هاته النار وشكلت بمعية الماء، الأرض، والهواء خطاطة واحدة لنفس التصميم الذي تبناه باشلار بعد قراره البحث في الخيال : ((معلنا عام 1942، عن رغبته القيام بشكل متواز بسلسلتين من الدروس تقوم الواحدة على "تماس الفكر الرياضي والواقع"، وتتجه الثانية إلى ميتافيزيقا الخيال. لقد حرص على تبرير اختيار هذه المزاوجة، مستعيدا الأمر بحكى بسيط، كشف من خلاله قدرته على توظيف رواياته النادرة : "حينما انتقلت من ممارسة وتلقين العلوم إلى الفلسفة، لم أشعر بأني سعيد كليا كما تمنيت، وبحثت بلا توقف  عن مبرر عدم رضاي، إلى غاية اليوم وفي إطار المحيط الحميمي للأعمال التطبيقية داخل كلية ديجون Dijon، سمعت أحد الطلبة يتكلم عن "عالمي المعقّم". لقد كان ذلك إضاءة بالنسبة لي، فالمسألة إذن هي كالتالي : إن إنسانا لا يكون سعيدا بين أحضان عالم معقّم. لهذا، حتم الأمر بالأحرى، العمل على التفريخ السريع وكذا الإسراع بالميكروبات وسط هذا العالم، كي أنقل إليه الحياة. بالتالي، سعيت نحو الشعراء، وتموضعت في مدرسة الخيال))(20). لذا، راكم باشلار متنا شعريا توزع بين الكلاسيكية، الرومانسية، الرمزية ثم السوريالية استطاع في ظله تصنيف الخيال إلى : نظري، مادي، ديناميكي ثم حيواني. ووضع الاستراتيجية الأنطولوجية، التي نتمكن بواسطتها إدراك الخلفية المادية والتي تشد كيان هذا المبدع أو ذاك، ارتكاز رؤيته لأشياء العالم على عنصر دون غيره.

لقد خلقت العناصر لدى باشلار ، رغبة في التنظير للخيال. بهذا الخصوص، تساءل ميشيل مانسي Michel Mansuy، عن الدور الضمني الذي لعبته حروب أوروبا في التأثير على باشلار كي يكتب الماء (1942)، الهواء (1944)، ثم الأرض (1948 بجزأيه، فعلى أمتداد 1300 صفحة لا نصادف كلمة واحدة عن الرعب والقلق، اللذان عاشتهما أوروبا مما يفسر رغبة التجائه إلى الكتابة من أجل النسيان والتلاشي. رأي، ورد أيضا عند جون كلود ماغكولان Jean Claude margolin، حين اعتبر كتاب "الماء والأحلام" محطة أساسية في الانقياد الباشلاري وراء الحلم، رغبة في تجاوز المعاناة اليومية: ((لقد أنجز مشروعه "الماء والأحلام" إبان المرحلة الأولى من الحرب العالمية الثانية، حيث الألمان يحتلون باريس وأوروبا بأكملها تقريبا تحت سيطرة قوى المحور. لذلك، سنستعيد بشعور خاص قراءة  هذه الجملة حول كلام الماء التي أنهى بها عمله : "ينبغي على الإنسان  الشقي أن يتكلم للنهر. آه، تعالوا أصدقائي في واضحة النهار، وانشدوا رنات النهر!"))(21). النهر، ينصت إليك بمودة، يمنحك فرصة التكلم رغم كل شيء والحلم بسكينة واسترخاء : ((حالم مستريح أمام ماء هادئ، حيث حلم اليقظة عميق فقط بالحلم مع ماء هادئ. الطمأنينة، هي ذاتها كينونة العالم وحالمه))(22).

إن أهم ميزة لحلم اليقظة الباشلاري، تشير إلى العلاقة الأنطولوجية المباشرة بين الأنا والوجود، من تم يتحدد باعتباره : (انعكاسا على بعض المشاهد أو الذكريات ذات القيمة. إنه يكشف عن أسرار باطنية، في لغة الأشياء الخارجية))(23). الأشياء والمكونات، تمظهر وفيّ للأحاسيس والانفعالات الذاتية. تذوب المسافة بين الإنسان والعالم، لأن الأخير  ببساطة "فاكهة" : ((يبرز الخيال الشعري كصلة مع العالم القائم مما يعطيه ثراء، وذلك بتماثل صور ذاتية لا واعية مع دلالات العالم المختفية. حلم اليقظة المنتبه، المتجذر في هذه الصور، ودون أن يزيغ عن الأشياء يرتبط بها ثانية، سواء بطريقة نزاعية(حلم يقظة الأنيموس) أو حدوث نوع من الانصهار المطلق (حلم يقظة الأنيما). بالتالي، يبدو الخيال الباشلاري قبل كل شيء، مثل انخراط في العالم وتزاوج دائم بالأشياء الواقعية))(24). فالصور،  تعبير عن أعماق النفس الإنسانية، لأنها تفعيل لهذا الإحساس الشاعري بالعالم الذي اجتهد باشلار في صياغته نظريا : ((تمثل هذه الصور في الواقع، انعكاسا وغزوا ينطلق من الأنا إلى الكون. من جهته أيضا، يسلك الخيال  وظيفة كونية، تتناغم مع حالاتنا الفيزيائية الخاصة))(25). هكذا، حينما يندفع الخيال المادي في محاولة جديدة لاستحضار جمالية  الأشياء، يصير الكون بأكمله موضوع شاعرية خاصة، بل حتى ما هو مألوف يرتقي إلى المستوى الكوني كي يعيد ثانية تصميم علاقة الإنسان به،  ((في تساميها إلى أن أصبحت كونية، فإن الصور بالتأكيد وحدات لحلم اليقظة، وهي عديدة جدا بحيث إنها عابرة، لكنها تظهر وحدة أكثر ثباتا، لمّا يحلم حالم بالمادة ويذهب بأحلامه إلى غاية "عمق الأشياء". كل شيء، في الآن ذاته يصير كبيرا وثابتا، حينما يتوحد الكون  مع المادة عبر حلم اليقظة))(26).

ولأن العالم مجال اشتهائه، فقد حوله حالم العناصر المادية إلى صورة نادرة  عن منحاها وتأويلها. هذا يفترض، ظاهرا أو باطنا منظومة مفهومية تتمرد على الصيرورة الوجودية الروتينية. لذا : ((فالانسياب مع العنصر الإنساني، بمثابة انتحار إنساني ضروري، لمن أراد أن يعيش انبثاقا كونيا جديدا))(27).

يكسر الإدراك الباشلاري للعالم، حيزه الكلاسيكي ويعيد تصنيف المقولات والأولويات التي اتجهت نحو نسج مداراته وفق إطار بنائي مغلق. لكنه، هنا بدا منفتحا على كل الاحتمالات تحكمه رؤية شاعرية. وقد، عبر عن ذلك "ميشيل مانسي" Michel Mansuy، قائلا : ((يرتكز المسار الأساسي للعبقرية الباشلارية على خلق جدلية وسط كل تجليات الاستمرارية، كي يقيم فيها لعبة  التناقضات))(28). أما "جيلبير دوران"Gilbert Durand ، فقد أول كوسمولوجية باشلار ، كما يلي : ((بالرغم من الظاهر، لا يتعلق الأمر بمفهومية أرسطية مستندة إلى العناصر الأربعة، تتأسس على تمازج الساخن ؛ البارد، الجاف والرطب. لكن، بحلم يقظته ينطلق من العناصر ثم يكبر ليس فقط عبر الأحاسيس الأربعة، لكن جل الأحاسيس بل وعلاقتها الممكنة : الأعلى، الأدنى، المضيء، السميك، الثقيل، الخفيف، المجنح))(29). كوسمولوجية، أتت تحديدا من حقل الشاعرية الفلسفية وليس العلم بغية التعبير عن الإنسان ووجوده في العالم، فهي تلامس كل حدوده وإمكاناته وانبثاقاته، مادامت صرامة وتقنيات العلوم النظرية البيولوجية، تبقى عاجزة عن استيعاب سياقات الكائن الشاعري : ((إن دينامية الصورة التي نعيشها مع أحلام يقظة الماء، الأرض، الهواء، والنار، ترتبط بالإنسان التاريخي، الاجتماعي أو البيولوجي، لكنه الإنسان الذي يتجاوز تحديداته وحدوده))(30).

لقد نمذج الخيال الكوني الباشلاري وظيفة للاواقع، وخلق شاعرية للمادة، لم يستقيها فقط من وثائق الشعراء والأدباء، ثم المادة الحلُمية التي وفرتها أبحاثه الإبستمولوجية وكذا الصور المحبوبة بعشق. لكن، بالدرجة الأولى، لأن الخيال في تعلقه بالجواهر المادية، يستهدف استراحة تأملية حتى يرسي جماله الذاتي، كما فهمه باشلار ، بانتقائه لحلم اليقظة المحلق بعنصر مادي.

لذلك، فإن تجليات ودلالات هذا الخيال المادي، تنتقي لنفسها نمطا قيميا مغايرا ينبني على نظام معرفي يتملص قطعا من الاكتفاء بثنائية الصدق والكذب، الملتصقة بسذاجة الواقع المألوف، ثم يفترض ملكة معرفية تستمد مشروعيتها من المعادلة المختلفة التي سعى باشلار بواسطتها إلى التموضع في بنية الخيالي : ((بتغييره للعلاقات التقليدية بين الخيال والصورة، وجعله من الوظيفة المتخيلة مثيرا أساسا للمادة الساكنة، أقام وظيفة للاواقع ثم أخرى سوريالية. كما أنه، انطلاقا من الاندفاعات اللاواعية والقوى الحُلمية المنسابة بلا توقف إلى الحياة الواعية، خلق شاعرية موضوعية للخيال))(31).
اتسم هذا الخيال المادي الباشلاري بمنطق نوعي،يمكن تفكيكه إلى إشارات مثل :

ـ يعتقد ويؤمن بانتقال القيم وتعددها.

ـ تمفصله الدائم بين الوجود والقيمة : ((لأن الجوهر الذي حصل على قيمة، بوسعه التأثير ولو بكمية صغيرة على كثلة ضخمة جدا من العناصر الأخرى. بل، إن ذلك يجسد قاعدة لحلم يقظة القوة : الإمساك في باطن اليد بمقدار صغير، وسيلة للهيمنة الكونية))(32).

ـ ينبني الخيال  المادي على عملية التمازج والتآلف بين العناصر: ((يوحد الماء مع الأرض والماء بنقيضه النار ثم الأرض بالنار. كما يتبيّن في البخار والضباب، وحدة للهواء والماء. لكن لا نرى أبدا، وفق أية صورة طبيعية يتحقق التآلف المادي الثلاثي بين الماء، الأرض والنار))(33). فالزواج والثنائية، أسّ هيكلي لصيرورة الخيال المادي، حيث تتبادل العناصر موقعها. ماهية الخيال المادي، كيمياء  التمازج ، من تم انتفاء وحدة الخيال هكذا : ((يحدد باشلار بخيال مادي، ذاك الخيال الذي "تهذبه" الجدليات الطبيعية للسائل، الثابت، الصلب، الرطب، الأرضي ثم الهوائي. لكنه، أيضا ينهض بهذه الجدليات ويتمسك بها لأنها مؤسِّسة للصورة ذاتها))(34).

يمنح العنصر للخيال المادي مسوغه وحتميته، كما يحرس على صياغة نموذج ونوعية التأملات التي تنتجها الذات بعد دهشة الوعي الكوني : ((تظهر العناصر المادية الأربعة، أربعة أنماط من الإثارة إلى جانب أربعة نماذج للغضب))(35). إنها الأمزجة الأصيلة التي تتفاعل مع البناء الضمني للعنصر، في سياق تحقق معرفي لصيرورة الذات : ((كل عنصر له رمزه، الغضب، الدينامية والنقاء. وبأن هناك أربعة أجزاء للموت والذوبان والتلاشي))(36). إذن : ((لكل واحد من العناصر انحلاله الخاص، فللأرض غبارها وللنار دخانها))(37).

الخيال المادي الباشلاري، محاولة للإجابة عن سؤال يتعلق مضمونه بأي عنصر من العناصر الأربعة، يقر إراديا وضعا يحدد التوجه العام للمزاج الذاتي، لأن الخيال وحدة نظرية ولو تميزت إجمالا بكونها  معادلة نسبية، ما دام المبدع تخترقه عوالم متعددة. هكذا، "نيتشه"مثلا،  قد يكون شاعرا هوائيا وعاشقا للنار في الوقت ذاته، مما يستدعي القول : ((بأن الخيال، لا ينحصر في عنصر واحد، بل يستعير  كذلك صورا من الأخرى. باشلار ، مدرك لذلك، فهو يعرف أنه بالنسبة لشاعر الماء توجد أيضا السماء والأرض ثم الشعلة، لكنه سعى إلى تقليص أهمية هذا التبعثر قصد تبرير نظرية رباعية الأمزجة الشعرية))(38).

بنية، ستحافظ على النظام المعرفي الذي اختاره باشلار لنفسه، بمعنى البحث للخيال سواء كان ماديا أو ديناميكيا عن ثوابت تجيز من جهة دراسة الخيال في ذاته. وثانية، افتراض مسلمات وركائز، كأوليات. ولعل أهمها نظرية العناصر الأربعة المنمذجة للأمزجة الإبداعية.

تقدم المادة للخيال الباشلاري، المنطلق من مسلمة العنصر، أفضل روافد التحقق والتجسد، تمتلك معها الصورة خصائص حسية وإدراكية،  تهيئ لها شكلا ومحتوى ملموسين. صورة غنية وثرية تمنح العالم حضورا مكثفا جمالية، وتخلق لدى الذات مصيرا شعريا، أراد حقا المشروع الباشلاري تمثله وصياغته نظريا، انطلاقا من شرط تذويب  ممكنات المسافة بين الذات والآخرية المتعددة، وإنبات نوع الصور الإيمائية : (( لا تحيل على إدراك أو فكر أو حلم يقظة، اشتغل قبليا، فتكتفي بالتقاطه وإظهاره وزخرفته ثم موضعته بالمعنى التصويري للكلمة، تلك صورة زائفة نسميها مع باشلار مجازا وهي ليست في المطلق إلا علامة. الصورة الحقيقية، تستحضر شيئا لم يتحقق حتى وقتها))(39). هكذا، يتلمّس العالم بأكمله نفوذه الخيالي، وتتبادل الحقائق مواقعها : ((كي نتعقب باشلار ينبغي الانتقال من مخطط إلى آخر، ونفهم مثلا أنه إذا استحضر منزل الحلم، فهو يحلم بعالمه الذاتي كما يرمز له. وحين، يقف على مشاعر نحات الحجر، وهو يقوم بتشذيب قطعة فنية، فإنه يتأمل بعين الروح، نجاح المجهودات اللازمة لتأنيس ذاته))(40). وقد أشار باشلار إلى ذلك، بمعنى آخر لكن في السياق ذاته، عندما قال : ((إن الصور الكبرى التي تعكس الأعماق الإنسانية ويحس بها الإنسان في ذاته والأشياء أو الكون، هي صور متماثلة. لذا، فإنها بشكل طبيعي جدا، الواحدة مجازات  للأخرى))(41).
حوار الذات والعالم، سواء كان عدوانيا أو تماهيا حميما، فقد استهدف إلى استجابة خيالية لروح الإثارة، حيث تظهر العناصر المادية الأربعة بمثابة تحديد دلالي لاحتمالية العالم بناء على ترسيمة مادية معينة، فترتبط أحلام اليقظة بعنصر ما.

تتملى العناصر الأربعة صورة العالم فينا، كما تبرر نوعية رؤيتنا لهذا العالم ، مما يحث على الاعتقاد بأن : ((صور كاتب، تنطوي بالرغم من تعددها، على ترابط ما وترسم كيفيات مزاجه))(42).

إن مقاربة الوعي الكوني الباشلاري، تحتم فهما معرفيا وأنطولوجيا لعلاقة  المادة بالعنصر، وتحديد مستويات ذلك. أي هل تشكل العناصر الأربعة، إدراكا وإحاطة بالعالم؟ أم تعيّن نمطا خياليا أو اتجاها مزاجيا؟ تساؤل  ينتهي لزوما إلى تباين في المواقف مثلا ما ورد عند بول جينيستر Paul Ginester : ((يجب أن نستوعب جيدا ما يقصده باشلار ب "عنصر". فهذا الفيلسوف المصنّف ضمن "الماديين العقلانيين"، لا يفكر حقا داخل جماليته كما لاحظ ذلك حقا "إيتيان سوريو" Etienne sourieu، بل يتعلق الأمر فقط بصور المادة في الفكر وديناميتها، الشيء الذي يظهر معه بالتأكيد، أن العناصر الأربعة تعبر عن اتجاهات لإبداع فكرنا أكثر من كونها إدراكا للعالم))(43).

طبعا، الأشياء المحيطة بنا، لا تقف عند روائز الإطار المادي الذي أمكن للعناصر الباشلارية حصرها فيه، بل تنسج فقط  رؤية  قائمة بذاتها نتأمل بها الكون من هاته الوجهة أو تلك  لأن : ((الأفراد في حاجة إلى إعطاء حلم يقظتهم غذاء  قويا، إذا توخوا إيجاد  جمال للوجود)(44). العناصر المادية، تخلق بقوة هذا الأفق، لأنها تمكن الخيال الإنساني، من مركز قطبي ينتج به الأشكال والدلالات.

إجمالا، سواء كانت الخطوة الباشلارية، منسجمة مع سياق تمتين آليات أعاد من خلالها التفكير في قضايا الخيال الإنساني وإحداث الثورة الكوبرنيكية التي طمح إليها، أو رغبة مضمرة من أجل نحت آفاق أخرى للممارسة الجمالية والشعرية، أو فقط مجرد خلاصات معرفية تأتت ل باشلار نتيجة قراءاته اليومية لمتون شعرية متعددة. فإن مجمل الأمر، يؤكد حقيقة واحدة، أن عناصر العالم ارتقت إلى مستوى كوسمولوجي خصب جدا، أضفى على مفهوم المادة صبغة شاعرية، انتشلها من حتمية الاختباري إلى شساعة الوجود، شغلت معه العناصر المادية الأربعة وضعا تأسيسيا جديدا.

الهوامـــش :

1- Gaston Bachelard : la Poétique de la rêverie, PUF Quadrige, Paris, 1960, 4ème édition 1993, page 150/151.
2- Ibid, page 152.
3 - Ibid, page 149.
4 – Ibidem.
5 - Ibid, page 157.
6 - Ibid, page 152.
7 - Ibid, page 150.
8- Gaston Bachelard : La psychanalyse du feu, Gallimard 1938, Nouvelle édition 1949, page 153-154.
9 – Michel Mansuy : Gaston Bachelard et les éléments,  librairie, jose corti 1967, page 48.
10- Ibid, page 150-151.
11- Ibid, page 136.
12- François Pire : De l'imagination poétique dans l'œuvre de Gaston Bachelard, josé corti, 1967, Page 58.
13- Ibidem.
14- Gaston Bachelard : l'eau et les rêves, essai sur l'imagination de la matière, librairie josé corti, 1942, 15ème  réimpression 1979, page 3-4.
15 – François Pire ; Op. Cit, page 57.
16- Ibid, page 72.
17- Marcel Voisin :Bachelard, édition labor, Bruxelles coll "problèmes", 1967, page 70.
18- Gaston Bachelard : l'eau et les rêves , op.cit, page 5.
19- Michel Mansuy : Gaston Bachelard et les éléments, librairie josé corti, 1967, page 141.
20 – Ibid, page 53.
21- Jean Claude Margolin : écrivains de Toujours, seuil, 1977, page 36.
22 – Gaston Bachelard : la poétique de la rêverie, op.cit, page 149.
23 – Michel Mansuy : Gaston Bachelard et les éléments, op.cit, page 116.
24- Jean-Jacques Wunenburger : in cahier Gaston Bachelard, année 1998, n° 1, Page 39.
25- Paul Ginestier : Pour connaître la pensée de Bachelard, Bordas, 2ème édition 1981, page 136.
26-Gaston Bachelard : la poétique de la rêverie, op. cit, Page 151.
27 – Op. cit, page 176
28- Michel Mansuy ; Gaston Bachelard et les éléments , op.cit, page 110.
29- Gilbert Durand: l'imagination symbolique, PUF Quadrige, 1964, 2ème édition 1989, page 77.
30- Jean Claude Margolin : écrivain de toujours, op.cit, page 54.
31- Ibid, page 63.
32- Gaston Bachelard : l'eau et les rêves, op.cit, page 194.
33 - Ibid, page 129.
34- François Pire : de l'imagination poétique dans l'oeuvre de Gaston Bachelard, op.cit, page 73.
35 – Gaston Bachelard : L'eau et les rêves, op.cit, page 214.
36- Michel Mansuy : Gaston Bachelard et les éléments, op. cit, Page 160.
37- Gaston Bachelard : l'eau et les rêves, op.cit, page 125.
38- Michel Mansuy : Gaston Bachelard et les éléments, op.cit, page 326.
39- Jean Burgos : pour une poétique de l'imaginaire, édition du seuil 1982, page 9.
40- Michel Mansuy :Gaston Bachelard et les éléments, op. cit, page 93.
41 - Gaston Bachelard : la terre et les rêveries du repos , librairie josé corti, 1948, 14ème réimpression 1988, page 173.
42- Michel Mansuy : Etudes sur l'imagination de la vie, librairie josé corti 1970, page 9.
43- Paul Ginestier : pour connaître la pensée de Gaston Bachelard, Bordas 1968, 2ème édition 1981, page 135-136.
44- Michel mansuy : Etude sur l'imagination de la vie , op. cit, page 210.




هناك تعليق واحد: