الاثنين، 7 يوليو 2014

باشلار .. والتوسير والقطيعة الابستمولوجية

بقلم : محمد أحمد البنكي



تتفرع هذه المقالة إلى جزئين يعنى الأول منهما بتقديم ملامح ومحطات من حياة المفكرين الثلاثة: غاستون باشلار ولوى التوسير وميشيل فوكو، ويندرج الجزء الثاني من المقالة في إطار تتبع حياة مصطلح من المصطلحات، تعاظمت سيادته في التناولات الفكرية وكثر الاستنجاد به في إجراءات القراءة والتحليل حتى ابتذل البعض ذلك ابتذالاً في الساحة العربية.


والمصطلح المقصود هو مصطلح القطيعة الابستمولوجية، وبتتبع انتظام ما لحيوات المصطلح يتبرر الخرط الذي قصدناه من وراء ادراج الثلاثة: باشلار والتوسير وفوكو في صعيد واحد أرضيته هو الاشتغال على مصطلح واحد مع اختلاف الأجهزة المفهومية.


فيما كان المشهد الثقافي الفرنسي بأكمله يكرس خياراته الروحية والمثالية مع برغسون وبرونشفيك والآن منذ أواخر القرن الماضي وحتى الحرب العالمية الثانية، كان غاستون باشلار (1884 – 1962) موظف البريد القادم من ديجون، يشق طريقه في صمت لما سيبدو أنه بعد قليل أمل بتوسيع الأفق وزحزحة الإشكالية الفكرية نحو مواقع تتجاوز الاختناقات التي ورثها التراث البيرغسوني على الخصوص.


لقد كان هذا الاستثنائي، القصير وعريض المنكبين وذو الشعر المسترسل واللحية الكثة الطويلة والشارب الذي يتدلى حتى يستر الفم والندبة الرفيعة بين العين اليمنى والجبهة المنبسطة، كان مثاراً للفضول لجهة ما أحدث من نكير على الفلاسفة ونعى لإمكانياتهم في ملاحقة التطور العلمي، بل ما هو أبعد من ذلك متمثلاً في إعلانه، كفيلسوف الفيزياء طريقاً ملكياً للمعرفة.


ولأن التقليد الثقافي الفرنسي يختلف عن نظيره في العالم الانكلوسكوني فاسحاً المجال للمثقف كي ينتزع مشروعيته عبر مصداقية أوسع لا تنحصر في قدر الشهادات والإلقاء العلمية فإن غاستون باشلار لم يجد كبير مقاومة في الاعتراف بثقافته العصامية ومواهبه الموسوعية على الرغم من أنه لم ينعم بالشهادات الأكاديمية إلا متأخراً نسبياً.
وهكذا عبر مجموعة من المؤلفات راح باشلار يكرس التساؤل حول الشروط العقلية التي تدفع مسيرة الفكر العلمي فكتب أطروحته حول: (الانتشار الحراري في الأجسام الصلبة، دراسة في تطور إحدى مشكلات الفيزياء) ثم أطروحة أخرى بعنوان: (بحث في المعرفة التقريبية)، واتبعها بكتاب: (التعددية المحكمة في الكيمياء الحديثة) ثم أصدر كتابه المتميز: (تكوين الفكر العلمي) تلاه كتاب (الفكر العلمي الجديد) وكلاهما يمثل تبئيراً مركزياً في مشروع باشلار.



ولم تتوقف جهود هذا الفيلسوف عند ذلك الحد فقد أصدر بعد ذلك: (القيمة الاستقرائية لنظرية النسبية ) ثم (تجربة المكان في الفيزياء المعاصرة) ثم (العقلانية التطبيقية) ثم (المادية العقلانية)، وهناك أيضاً كتابه (الفعالية العقلانية لعلم الفيزياء المعاصر) وكتاب (فلسفة الرفض) إضافة إلى حصيلة رائعة في الميدان الأدبي من بينها (حدس اللحظة)، (جماليات المكان)، (شاعرية أحلام اليقظة)، (جدلية الديمومة والزمن)، (التحليل النفسي للنار)، (المادة وأحلام الإرادة)، (الهواء والأحلام)، (الأرض وأحلام السكون)، (أحلام الراحة)، (الماء والأحلام).


ومن حسن الطالع إن غاستون باشلار يعد من الرموز المعاصرة القليلة التي واتها حظ الخدمة في إطار الترجمة إلى العربية، فقد ترجم حتى الآن من كتبه – بحسب إطلاعي المتواضع – ما يقارب التسعة كتب، وهي نسبة لا بأس بها بالقياس إلى وتائر الترجمة في معدلاتها الراهنة عربياً، كما أن هناك على الأقل ثلاثة كتب عربية تمحورت حول تناول فكر باشلار كتب أحدها المغربي محمد وقيدي وقدم الكتاب الثاني المصري شعبان حسن، وهو فيما يبدو أطروحة جامعية، على حين كتب المؤلف الثالث كاتب مصري لا يحضرني اسمه حالياً في أوائل الثمانينات.


وباشلار مخدوم عربياً من جانب آخر، فقد تتلمذ على يديه مباشرة عدد من الكتاب والمفكرين العرب أذكر من بينهم الدكتور رشدي فكار الذي حدثني بأنه كان من خلصاء تلاميذ باشلار وأنه كثيراً ما كان يجالسه في تأملاته المسائية على ضفاف السين حيث اعتاد باشلار أن يقضي بعض الوقت بين الحين والآخر ويتحلق حوله عدد من الكلوشارات والشباب البوهيمين، وقد روى الدكتور رشدي أيضاً طرفة تتعلق بالبالطو الطويل المسبل على أطرافه الذي اعتاد باشلار أن يرتديه في قاعة الدرس لسنوات دون تغيير، فقد توعد هذا البالطو مجموعة من تلامذة باشلار بينهم الدكتور فكار، وذات مرة نجحوا في التمويه على الأستاذ واختطاف البالطو المتوعد من على كرسي المحاضرة حيث اعتاد باشلار أن يخلعه بمجرد الدخول إلى القاعة في غالب الأحيان. ولأن باشلار يعرف النية التي تواعد عليه الطلبة وهي الأخذ من أطراف البالطو وتقصير أكمامه قبل إعادته فقد تأزم الموقف وهدد الأستاذ وتوعد بإيقاف المحاضرات ما لم يعد البالطو سالماً من غير سوء وهكذا لم يجد الطلبة مندوحة من الرضوخ لرغبة الأستاذ وترك البالطو الغريب على هيئته الغريبة.
الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة


ويحكي الدكتور عبدالفتاح الديدي، الذي تتلمذ على باشلار أيضاً بعض ذكرياته مع أستاذه في كتاب (الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة) فيقول: (وأسعدني الحظ بالدراسة عليه طوال إقامتي بباريس حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956. وكان يحتاج في فترات الراحة بين المحاضرات إلى بعض أوراق من مكتبه أو من سجلات الجامعة يدفع أمامه بابنته أستاذة المنطق بالجامعة لتسرع بدورها عدواً إلى يحث تؤدي له مطلبه كأنما يعامل طفلة ببيته). ويقول الديدي في موضع آخر: (وحين صرت من تلاميذه في رسالتي عن منطق تفكير برادلي سنة 1952 ترددت عليه مرات كثيرة في شقته تلك.. وكان يعيش بها مع ابنته سوزان باشلار التي صارت بدورها أستاذة للفلسفة بالسوربون ومؤلفة أهم الكتب عن فلسفة هوسرل وكانت زوجته قد توفيت فعاش حياة منفردة مع ابنته. وكان يلقاني في كل مرة في ملابس العمل بالبيت وهي عبارة عن جاكتة ذات خروق في أكمامها عند كوعه وبنطلون يمسكه بكرافتة قديمة محل حزام الوسط!!


ونسمح لأنفسنا، مع حرج التطويل، باقتباس أخير من الديدي، لأن ذلك من وجهة نظرنا يستكمل جوانب من الصورة الإنسانية لهذا الفيلسوف الفرنسي اللامع.
يقول عبدالفتاح الديدي واصفاً أستاذه باشلار: (إذا انطلق في محاضراته تكررت نظراته نحو النافذة المجاورة وارتعدت الكلمات على لسانه ارتعاداً ممتداً وهي تنبثق من أعماق حلقه. وكانت ملابسه عادية إلا في بعض أوقات العصر حين يخرج لنزهته مع ابنته فيلبس حينذاك ملابس سوداء ويضع على رأسه قبعة سوداء عالية يرفعها للتحية أمام كل من يحييه من معارفه. ونزهته المفضلة كانت تنتهي بالجلوس في الجور المناسب على منضدة أمام مقهى بشارع المدارس بين شارعي شامبوليون والسوربون. وتجد أمامه حينذاك كوباً من البيرة الصفراء).



وإذا كان باشلار قد خدم عربياً في إطار الترجمة والعرض التعريفي أو التناول النقدي فإن فوكو بين فلاسفة القطائع الثلاثة قد واتاه حظ مماثل بخلاف لوى التوسير الذي يقل عنهما شأنا في هذا الصدد ولحد يتناصله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق