السبت، 12 يوليو 2014

غاستون باشلار .. النار التحليل النفسي لأحلام اليقظة: درويش الحلوجي

ترجمه عن الفرنسية وقدم له:

درويش الحلوجي

الناشر دار كنعان دمشق 2005

رحلة في عالم باشلار

النار التحليل النفسي لأحلام اليقظة (1939)
نعم يمكن أن نطلق على هذه المقدمة اسم رحلة لأنها في حقيقة الأمر تهدف الى التجوال السريع لكنه ذو مغزى بطبيعة الحال فيما يمكن أن نطلق عليه عالم باشلار. لكن ثمة صعوبة تواجهنا على الفور ذلك إن باشلار لم يكن يعيش فكريا فى عالم واحد فقط بل فى عدة عوالم إن صح هذا التعبير. بداية، فلقد كان باشلار شخصية مثيرة للجدل وذلك يرجع الى انه كان بحكم تكوينه المتعدد المجالات يناضل فى اكثرمن جبهة فكرية فى آن واحد. ففي الوقت الذي كان يعمل فيه كأستاذ للكيمياء والفيزياء، كان يعد إجازة الاجريجاسيون وبعد ذلك أطروحة الدكتوراه فى الفلسفة التى حصل عليها عام 1927. منذ كتابه الأول الذي نشر عام 1928 (بحث عن المعرفة التقريبية) حدد باشلار أسس نظريته فى المعرفة مشيرا الى أن التماسك المعرفي الحقيقي ليس هو الثبات الدائم وعدم المساس بمجال ما من مجالات التفكير؛ لكنه بالا حرى القدرة على زعزعة وهز المفاهيم وخصوصا تلك الشائعة. من العقل الجامد المتصلب الى العقل المركب الحامل للتناقض الجدلي تلك كانت النقلة التى ركز عليها باشلار فى كتابه هذا. يثبت تاريخ الاكتشافات والتنبؤات العلمية أن المفاهيم الأساسية ليست هى التى تتغير فقط وإنما المرجعيات التى تستند إليها أيضا، عندما تتغير المرجعية فإنها تغير من المفاهيم التى تستند إليها. من الممكن القول أن باشلار كان فيلسوفا ملتزما والتزامه الأساسي كان يتركز على النضال ضد العقليات المتخلفة أو وفقا لما مااطلق عليه العقليات الماقبل علمية.

يحدد باشلار ثلاث مراحل أو فترات مر بها التفكير العلمي، يقول باشلار فى كتابه الرئيسي والهام " تكوين العقلية العلمية" : ( إذااضطررنا إلى وضع عناوين عامة لمختلف فترات التفكير العلمي، فإننا نميز بين ثلاث فترات:

الفترة الأولى تمثل الحالة الماقبل علمية.

الفترة الثانية تمثل الحالة العلمية فى طور الإعداد عند نهاية القرن الثامن عشر وتمتد الى مجمل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فيما يتعلق بالفترة الثالثة فإننا نشير بالتحديد الى فترة العقلية العلمية الجديدة بدءا من عام 1905مع نشر النظرية النسبية لاينشتين والتي بدأت فى هدم المفاهيم الأولية التى كان من المعتقد أنها لن تتزحزح مطلقا فى تحليله لتكوين العقلية العلمية الجديدة الذي خصص له كتابا يحمل نفس الاسم، وكذلك فى العديد من أعماله الأخرى، يعطي باشلار أهمية كبيرة الى كشف الأوهام التى سادت لقرون عديدة مدعية أنها تعبر عن تفكير علمي لكنها فى واقع الأمر لم تكن تستند إلا على صياغات لغوية تتلاعب بصور الخيال والمجاز. يقول باشلار" إن الملاحظة العلمية هى دائما ملاحظة مثيرة للجدل ؛ إنها تؤكد أو تنفى مقولة سابقة ؛ تصورا مسبقا ؛ عرضا للملاحظة ؛ كما أنها تعرض من خلال عدم الاستعراض ؛ تشيد تراتب المظاهر ؛ تتعالى بما هو آني مباشر؛ إنها تعيد تركيب الواقع بعد أن تكون قد أعادت تكوين صورته." (العقلية العلمية الجديدة، المقدمة)

يحاول باشلار فى نفس هذا الكتاب الهام أن يرد على تلك الأوهام التى ترسبت عبر قرون عديدة حول طبيعة الحياة العلمية والتفكير العلمي : " فى الحياة العلمية لا تطرح المشاكل من تلقاء ذاتها. تحديدا فإن هذا المغزى للمشكلة هو الذي يعطي علامة العقلية العلمية الحقة. بالنسبة للعقلية العلمية كل معرفة هى إجابة على سؤال. إذا لم يكن هناك تساؤل لن تكون هناك معرفة علمية. لاشئ يسير من تلقاء ذاته. لا يمكن إعطاء أي شئ. كل شئ يتم إنشاؤه. المعرفة التى تم الحصول عليها من خلال جهد علمي يمكن لها أن تأفل. إن التساؤل المجرد يتلاشى لكن الإجابة المحددة تبقى. "

لان فلسفة العلوم وفلسفة المعرفة تستمدان مادتهما بشكل كبير من تاريخ العلوم فإن باشلار يميز مابين مؤرخ العلوم وبين عالم المعرفة عندما يقول: " على مؤرخي العلوم أن يأخذوا الأفكار كوقائع، أما عالم المعرفة، فعليه أن يأخذ الوقائع كأفكار وذلك بإدخالها ضمن نظام للتفكير." (تكوين العقلية العلمية، ص ،(17يرجع انطلاق الفكر العلمي فى صورته المعاصرة كما يقول باشلار الى " تضافر العبقرية والتقنية، لقد هزمت الطبيعة بالتالي مرتين، هزمت فى سرها وهزمت فى قواها. لقد نظم الإنسان الطبيعة بوضعه النظام فى أفكاره والنظام فى عمله فى آن واحد."

لم يتوان باشلار عن نقد الفلاسفة العقلانيين الذين مارسوا عقلانيتهم من خلال تصورات أولية مباشرة. فى هذا الصدد يقول باشلار: لقد دهشنا قليلا لان فيلسوفا عقلانيا يعطي اهتماما كبيرا الى أخطاء وأشياء مشوشة (…) فى الواقع، إننا لا نرى اى تماسك فى عقلانية طبيعية مباشرة وأولية. نحن لانصل الى المعرفة العقلانية دفعة واحدة (…) عقلانيون ؟ ذلك ما نحاول أن نكونه (…) (الماء والأحلام ص9-10). تشير الموسوعة العالمية إلى أن تأمل رمزية النار كان عاملا هاما فى الأعمال الشعرية والأعمال الرمزية وحتى بالنسبة لفلسفة المعرفة المعاصرة، وان باشلار فى كتابه التحليل النفسي للنار قد رفض للمرة الأولى العرض التاريخي السائد باذلا جهدا لفصل المفهوم العلمي عن الصور الخلفية الذاتية، مستخدما التحليل النفسي الموضوعي الذي يبذل كل ما فى وسعه لفصل الشئ عن شحنته النفسية- لقد بذل جهدا كبيرا لكي يناهض الوحدة الكاذبة المتعلقة بأولية النار. النار ظاهرة محملة بكثير من الرموز، على العكس من العناصر الأخرى فإن رمزية النار هى رمزية متعددة المغزى. من هذه الرمزية المتعددة تعطى دراسة الموسوعة العالمية محورين رئيسيين : محور الرموز الحرارية ومحور الرموز المجازية. النار الحرارية هى تلك التى قسمها السيميائيون الى درجات مختلفة (نار الرماد، نار الرمل، نار الفرس والنار المصرية …) وتعود كل هذه الدرجات من النار الى قطبين رمزيين كبيرين: الرمزية الجنسية ورمزية الابن (نسبة الى الابن). تمثل الرمزية الجنسية كل الصور والتشبيهات التى تتلاقى وتتداخل بين النار والفعل الجنسي، مع عاطفة الحب أو ببساطة مع الحب والعواطف. ربما يكون اكبر مثال على ذلك أن ايروس إله الحب عند اليونان يظهر غالبا مع شعلة من النار عند حافة سهمه. فيما يتعلق بالرمزية المتعددة التى تحملها النار وكذلك التحليل النفسي لها خصص باشلار الجزء الأكبر من كتابه لهذا الموضوع. النار الجنسية فى الواقع نار مرتبطة برمز الخصوبة والإنجاب، الابن هو " الثمرة التى تخرج من بطن الأم، النار هى الابن الذي يولد، أنها النتاج الطبيعي الذي ينتج بدوره من بعد، إنها الميلاد وإعادة الميلاد أو التجدد الدائم، إنها البعث . إننا نترك للقارئ أن يكتشف بنفسه ذلك التحليل النفسي الذي يكرس له باشلار الجزء الأكبر من هذا الكتاب

المحور الآخر هو محور النار الساطعة نار الوميض الكامنة فى بناء تصوري بطولي، إنها رمز النقاء والتغيير الجذري، هناك أيضا النار السماوية، نار الجحيم، نار الضوء المحملة برمز ذكوري، هناك نار البركان التى تخرج من بطن الأرض الخ… باختصار النار تمتد برمزيتها فى الخيال الإنساني مابين نار حميمة تتحولق مع أحلام اليقظة الناعمة اللطيفة، ونار درامية مدمرة لاتبقى على شئ، ثم النار المطهرة، نار تنقي وتطهر، تقطر وتسامي.

فى النهاية نود أن نؤكد مرة أخرى على أننا لم نهدف من هذا التقديم عرض دراسة عن فكر جاستون باشلار ولا حتى تقديم تحليل لهذا الكتاب الذي نقدم ترجمته للقارئ العربي. لكن بعد الرحلة السريعة التى قمنا بها فى بعض من عوالم باشلار تبقى بعض الكلمات التى نود أن نضيفها فى نهاية هذا التقديم. بداية توحي أفكار ومفاهيم باشلار بعدة تساؤلات بعضها نطرحه نحن والبعض الآخر قد يطرحه احد القراء.

أما سؤالنا فهو: لماذا تعود الأفكار والمفاهيم التى هزمت وتراجعت أمام انبثاق الفكر العلمي المعاصر الى الظهور مرة أخرى ؟ كيف نفسر تلك الظاهرة التى نشهدها منذ بضع سنوات والمتمثلة فى ظهور وصعود الأفكار السلفية والمفاهيم الغيبية اللاعلمية التى كنا قد ظننا أنها قد هزمت وأفلت الى الأبد ؟ أخيرا قد يتساءل قارئ عن أهمية موضوع مثل موضوع النار وما يثار حوله من أفكار وتصورات.

على الرغم من تعدد الأسئلة إلا أن ثمة إجابة واحدة يمكن أن تمثل ردا عليها. باستخدامنا لطريقة باشلار فيما اسماه التحليل النفسي للمعرفة يمكننا أن نتحدث عن اللاوعي الإنساني كما نتحدث عن اللاوعي الفردي. بالنسبة للأفكار التى تعاود الظهور على الرغم من سذاجتها ولا عقلانيتها فإن التحليل النفسي يمكن أن يقدم جزءا من التفسير. هذه الأفكار التى تخيلنا أنها قد هزمت وتراجعت أمام موجة أو موجات التفكير العلمي العقلاني المستنير الذي ساد خلال عقود وسنوات سابقة، لم يتم القضاء عليها فى حقيقة الأمر، لقد ظلت هذه الأفكار قابعة فى اللاوعي العام وكانت تنتظر الفرصة واللحظة التى تطفو فيها الى السطح، إن تخرج الى مستوى الوعي مرة أخرى (بصرف النظر عن أن هذا الوعي زائف أم لا). من هنا عندما نرى ونسمع فى هذه الأيام بعض ممن يطلق عليهم لقب العلماء يتحدث عن الظواهر العلمية التى تخضع دراستها وتحليلها لمجالات متخصصة من مجالات العلم المعاصر (الفيزياء، الكيمياء، الفلك الخ.)، ويتحدث مفسرا ومحللا هذه الظواهر مستعينا بأدوات للتفكير والتفسير ثيولوجية وميتافيزيقية لا علاقة لها البتة بمنطق ومجالات دراسة هذه الظواهر، فإن الأسئلة التى طرحناها تصبح أكثر قربا للفهم بفضل منهج باشلار فى التحليل النفسي للمعرفة. إن مثل هذا المثال الذي نقدمه هو حالة نموذجية لمرض " انفصام الشخصية، اى الشيزوفرانيا " انه نوع من الشيزوفرانيا الفكرية إن صح هذا التعبير. إن العالم الذي يقوم بتدريس نظريات الفيزياء المعاصرة، أو ذلك الذي يدرس ويشرح لطلابه فى الجامعات نظريات وأسس التفاعلات الكيميائية والنووية، أو ذلك الذي يقوم بنفس الشئ فى مجال علمي آخر مثل البيولوجيا أو الفيزياء الفلكية، هذا العالم عندما يكتب مقالة فى إحدى الصحف أو المجلات أو عندما يقوم بالحديث فى ندوة عامة أو في برنامج تليفزيوني (عادة ما يبث على القنوات الفضائية حتى يصل إلى جمهور أوسع)، عندما يقدم خطاب الشروحات والتفسيرات الغيبية التي تتصف بالشعوذة أحيانا وبالمسوح الديني أحيانا أخرى، مثل هذا "العالم" كيف يمكن تشخيص حالته هذه بدون استخدام منهج التحليل النفسي ؟ إن هذا الفرد سواء كان يقوم بما يقوم به بسبب من حالته المرضية الشيزوفرانية، أو كان يقوم بذلك عامدا متعمدا مع سبق الإصرار لتحقيق هدف مصلحي نفعي مباشر، فإنه فى كلتا الحالتين يعبر عن حالة اللاوعي العام أو اللاوعي الجمعي الذي يتفاعل ويتلاقى معه. بطبيعة الحال هذه الظاهرة لها أبعاد أخرى يجب أخذها فى الاعتبار عند إجراء عملية التحليل المركب. هناك عوامل اجتماعية وثقافية عامة، وهناك عوامل نفعية آنية مباشرة (سياسية أو اقتصادية الخ.)، لكننا نود هنا أن نشدد ونشير بشكل أساسي الى البعد المعرفي فى علاقته بالبعد التحليلي النفسي.

إن الخطاب الغيبي السلفي والخطاب اللاعلمي بشكل عام يتميز بطبيعته الدائرية، انه خطاب يدور حول نفسه فى فلك من الكلمات البراقة المحملة بشحنة ثقيلة من التشبيهات والمجازات التى لا تستند الى اى حقيقة علمية لكنه يلاقي رواجا لدى اللاوعي العام الذي يؤخذ ويولع بسحر الكلمات المتضخمة أحيانا والساحرة أحيانا أخرى، انه خطاب يستند إلى أساس من الكلمات التى تستند بدورها على كلمات أخرى وهكذا.


تبقى ملاحظة أخيرة حول سؤال آخر قد يثار : هل يكفى الدور الذي يقوم به من يطلق عليهم لقب المستنيرين والعقلانيين وكل من يتبنون المنهج والتفكير العلمي لمواجهة هذه الظاهرة ؟ الإجابة للأسف الشديد هى لا. إن الأمر لا يتعلق هنا بصرا عات فكرية تدور داخل مناخ عام صحي ومستنير، مع كل التقدير لشجاعة المصارعين على جبهات الفكر المختلفة، لكن الأمر هنا يتعلق أساسا بإنشاء هذا المناخ الصحي المفتقد. إن أستاذ الجامعة المتخصص فى أحدث مجالات العلوم والذي يقوم بتدريس هذه التخصصات لطلابه، هو ذاته الذي يكتب وينشر ويشارك فى ندوات عامة ويتحدث فى أجهزة الإعلام بخطاب آخر ينفي بل ويهدم كل ما يقدمه الى طلابه بحكم وظيفته. إذن ما العمل ؟ الإجابة على هذا السؤال الذي يعود ليطرح من جديد مع كل احتدام لازمة جديدة، ليست إجابة آنية مباشرة لأننا لو حاولنا ذلك، وهذا فى حد ذاته أمر غير ممكن، نكون قد وقعنا فى نفس الفخ الذي ينصب حولنا فى كل مكان ! لكن، بالرغم من ذلك يمكن أن نقول أن بناء عقلية علمية فى ظل مناخ عقلاني عام ،على أساس من ثقافة علمية حديثة ربما يكون، بل هو بالتأكيد الرد على هذا السؤال. انه رد لا يجيب بنعم أو لا، كما انه لا يجيب أيضا بتقديم وصفة مفصلة قابلة للتنفيذ بشكل آلي. إن بناء عقلية وطريقة للتفكير حديثة موضوعية وعقلانية هو مشروع استراتيجي يستهدف إحداث تغيير بنيوي فى الطرق والمناهج المستخدمة فى التعليم، فى التربية، فى وسائل نشر الثقافة العامة وخصوصا وسائل الإعلام الجماهيري وفى القلب منها ذلك الجهاز الذي يلعب دورا خطيرا للغاية، اى جهاز التليفزيون. لكن كيف يمكن إنجاز ذلك والقائمون على وضع سياسات هذه الوسائل وإدارتها، إما أنهم لا يمتلكون هذه الرؤية، أو إنهم يقومون بتنفيذ المشروع المضاد ؟ إن لعبة المصالح المباشرة بلغت من الشراسة والقوة، بل والفجاجة، حدا شديد التعقيد. ومن التناقضات المثيرة للسخرية أن الوسائل والأدوات التى من المفترض أن تقوم بنشر الوعي والمعرفة، التي تأخذ على عاتقها مهمة ببناء عقلية جديدة ونشر مناخ ثقافي وفكري مستنير، هي التى تكرس الى حد كبير حالة التخلف الحالي، لقد تحولت وسائل بناء ونشر المعرفة الى عوائق معرفية !


درويش الحلوجي، باريس، نوفمبر 2004.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق