يصر باشلار علي الاعتراف بأنه صاحب مهنة بسيطة وهي البحث عن الصور.
الصورة التي فيها من الجاذبية ما يكفي لتثبت أحلام اليقظة
إن لجوء باشلار إلي مغازلة أحلام اليقظة ليس مبعثها التوقف البليد أمام تداعياتها
الشخصية باجترار زمن مضي واستعادة الماضي محنطاً كدمية ما عاد لنا أن نلامسه إلا
بالأحلام، بأحلام اليقظة فقط،.
إن باشلار يدعو إلي استنفار كل الحواس لتحقيق حلم يقظة ولا باس علي الحالم أن يصرف
الأذن التي منحت نفسها بشكل كامل إلي ضمير الإصغاء، وأن يصرف الجفن الذي يرتجف
أمام اللهب، إنه يحلم فلما يكف المرء عن الإبصار فإنه يحلم، .
وهنا يجب التوقف والحذر من هذا الفيلسوف العالم والحالم بالسؤال: هل كان باشلار
يعاين محنته في الربط بين العلوم الصرفة كالكيمياء والفيزياء والعلوم الإنسانية
كعلم النفس.
يجيبنا باشلار: أن أقرأ فأنا لست سوي فاعل يقرأ، أفكر أنا لا أجرأ علي ذلك، عليّ
أن اقرأ قبل أن أفكر فالفلاسفة يفكرون قبل أن يقرأوا.
وباشلار كمؤول لا يعتد بنصوصه كمرآة أولي وأخيرة، إنه الحالم بإعادة الاكتشاف
وبدهشة عالية لكل نص يري فيه ظلاً أو عتمة أو ضياء للموشور الكلي لرمزيته
(الزمكانية).
هل يمكننا أن نناقش مثل هذه الأفكار في عصر المصابيح الخافتة والمكونة كحارسة
لأحلام ليلنا؟
هل يمكن لباشلار أن عثر علي مكان في الذائقة الحالية ؟ هل من الممكن قراءة باشلار
مرة أخري؟
إن مثل هذه الأسئلة تحيلنا إلي قراءة باشلار كاملاً في أعماله وهذه مهمة عسيرة لي
وللآخرين لكنني كحاكم يقظة (شاعر) وجدت في باشلار أكبر قمة لإعادة الاعتبار إلي
الشعر بوصفه حلماً مجهضاً، أعاده هذا الفيلسوف الذي كان عالماً براطيقياً وحالماً
ميتافيزيقياً بكل ما تنطوي عليه الكلمة الكلاسيكية للفيلسوف من معني الحكيم
والأخلاقي والمبشر.
كما أن سيرته الشخصية تحولت إلي موضة، اللحية العظيمة الجاكيتة ذات الخروق
البنطلون المشدود بمشدّات في موضع الحزام، فقد ولد هذا الشاعر الحالم في عام 1884 وتابع دراسته الثانوية ثم حصل عل ليسانس
رياضيات في عام 1912 وعند اندلاع الحرب العالمية الأولي أمضي أربع سنوات في خنادق
القتال ثم عمل مدرساً للعلوم الطبيعية في بلدته بعد الحرب، وفي عامه السادس والثلاثين
حصل علي ليسانس فلسفة ثم حصل علي إجازة الأغرغاسيون وبعدها حصل علي الدكتوراة عام
1927 وقام بالتدريس في جامعة ديجون حتي عام 1940 ثم انتقل إلي جامعة السوربون
أستاذاً للفلسفة حتي وفاته عام 1962م، ومن المفيد هنا أن نشير إلي أن باشلار قد
أنجز ما يربو علي الثلاثين كتاباً في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل: التجانس
المتعدد في الكيمياء الحديثة، والروح العلمية الحديثة، وحدس اللحظة، وجماليات
المكان، وشعرية أحلام اليقظة، والقيمة الاستقرائية للنظرية النسبية، وحق الحلم،
والتحليل النفسي للنار، والماء والأحلام، والنشاطات العقلانية في الفيزياء، وآخر
كتاب أنجزه هو لهب الشمعة.
ومع حصيلته الثرة هذه كان باشلار يغترف من الآخرين بروح الفيلسوف المنفتح ويمكننا
أن نتلمس أبرز مرجعيات ومصادر باشلار وكالآتي:-
أولا : المراجع الفلسفية:
أ ــ أرسطو: إذ أن باشلار استعار مفهوم العناصر الأربعة (النار والتراب والماء
والهواء) من أرسطو واستطاع أن يميز بينها في مؤلفاته (التحليل النفسي للنار)
و(الأرض وأحلام الإرادة) و(الماء والأحلام) و(الهواء والأحلام) فقد استطاع باشلار
أن يجد محددات نفسية حسب ــ بيرجه ــ طبقاً للعلاقة المتخيلة بين العناصر الأربعة.
ب ــ ديكارت: لم يشكل هذا الفيلسوف (الكوجيتي) لباشلار سوي نقطة للافتراق مع
العقلانية الديكارتية المحضة إذ أن باشلار حرص علي تعريف الروح بنوع من العقلانية
المفتوحة والمتطورة والبعيدة أيضاً عن ديناميكية الفكر البدائي كما بعد باشلار
مكملاً للابتسمولوجيا الديكارتية.
ج ــ الظاهراتية: لقد كان باشلار مدين لمعطيات الفلسفة الظاهراتية في أعماله
وخصوصاً التحليل النفسي للنار والدراسات الأدبية التي أنجزها إلا أنه أراد أن يؤسس
للفلسفة الظاهراتية منهجاً نقدياً للدراسات الأدبية واستطاع بالفعل أن يبدع
مفهوماً ديناميكياً وخصوصاً علي اشتغاله علي أحلام اليقظة وهذا المفهوم يجمع بين
الإدراك وبين الإبداع الذي يجعل العالم في علاقة تطورية بين الفاعل والموضوع.
د ــ كانت: كانت فكرة التسامي الكانتية واضحة في أعمال باشلار الذي استطاع أن يكون
مكملاً لها عبر التأكيد علي الطابع المتسامي للخيال المسير بالتجربة عوضاً أن يكون
نتيجة لها.
ثانيا -مراجع التحليل النفسي:
أ ــ فرويد: لقد كان تأثير فرويد مهيمناً علي دراسات باشلار ولا سيما في كتاب
التحليل النفسي للنار إذ أن منهج فرويد في التحليل النفسي كان سائد التأثير علي
الدراسات الأدبية، ولكن باشلار استطاع أن يقصي تأثير فرويد .
ب ــ يونغ: يمكننا أن نقول أن الانقلاب الذي أحدثه (سي. جي. يونغ) في حقل التحليل
النفسي قد أثر علي باشلار والذي استطاع أن يوظف فكرة (اللاوعي الجمعي) ذات الطابع
الأكثر حسماً من فكرة اللاوعي الفردي، وهذا المفهوم الإبداعي الديناميكي للحياة
وجد صدي كبيراً في نفس باشلار بتصوراته للحياة التي تتحول من الخيال المادي إلي
الخيال الحركي إلا أنه استثمرها ــ حسب بيرجه ــ ضمنياً.
ثالثا - المراجع الشعرية :
أ ــ نوفاليس: لا شك أن باشلار مدين لكل روح ثائرة علي عصر الأنوار لا سيما في نهج
باشلار الذي أتسم بإعادة الروح إلي الخيال، إلي الحلم، والذي اقترن بعصر ما قبل
الأنوار عصر الشمعة والشمعدان ونوفاليس بروما نطيقية وحدوسه الشعرية.
ب ــ بودلير: لقد تأثر باشلار بفكرة السفر عند بودلير فلم يعد هذا السفر نوعاً من
اللجوء إلي الصورة وهي في حركتها الإبداعية.
ج ــ لوتريامون: يعتقد باشلار أن فكرة الخيال لا تعي الشكل إلا إذا عملت علي
تغييره وحركت من صيرورته ولهذا كان شعر لوتريامون حسب باشلار هو شعر التهيج
والاندفاع العضلي ولم يكن شعر الأشكال والأدوات علي الإطلاق. لقد كان باشلار
متيقظاً لإعادة الاعتبار إلي الكائن المستوحد أمام مصيره فليس أكثر من لهب شمعة أو
نار يعاينها المتوحد لإيقاظ ذبالة الشمعة من مصيرها الأكيد لإعادة الاعتبار للرماد
بعيداً عن الفينيق وأساطير العودة. هكذا ينهي باشلار حياته كحاكم متأمل شاعر دون خرافات
ولا أساطير أقام باشلار للشعر مكاناً عظيماً في التجربة الفردية للكائن وهو يواجه
مصيره.
إن باشلار العالم والحالم والفيلسوف أراد أن نبلغ بالجمال إلي مداه دون عقلنة
فيلسوف دون انطفاء لتجربة فردية أمام قدرتها علي إحياء العالم ثانية، بالحلم
والتأمل هو دعوة إلي الينابيع
آه أيها النور الخافت
آه أيها الينبوع
آه أيها الفجر الطري
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
المصادر:
ــ لهب شمعة ــ غاستون باشلار ــ ترجمة د. مي عبد الكريم محمود وعلي بدر ــ
مخطوطة.
ــ جان فال ــ قصائد ظرفية.
المصدر : غاستون باشلار والحلم على لهب شمعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق