الأربعاء، 9 يوليو 2014

باشلار .. بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة: محمد نجيم

من موظف بالبريد إلى عمود مفصلي لتأسيسات الفكر الإنساني



يحمل كتاب الباحث والكاتب المغربي سعيد بوخليط الجديد عنوان : «باشلاريات غاستون باشلار: بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة»، وهو الكتاب الثالث له المتخصص في مقاربة وترجمة أعمال الفيلسوف الشهير جاستون باشلار بعد كتابيه السابقين : «جاستون باشلار: عقلانية حالمة» 2000، و»جاستون باشلار: نحو أفق للحلم» 2006.

غاستون باشلار بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة
جاء الكتاب في مجموع محدداته البيداغوجية، السجالية أو التأويلية، سعي مستمراً لتمثل الآفاق والممكنات التي أرساها الفيلسوف جاستون باشلار، للمعرفة الإنسانية . ونحن لا نختلف مع سعيد بوخليط في أن باشلار» وضع متنا نظريا تأمليا ضخما، مسّ كل مرامي التفكير. لكن الموسوعية هنا، من الجد أن تتفاعل جدليا في ذهن ذلك القارئ الذكي ـ كما أراده باشلار دائما ـ وفق سيرورة تمتد من نهم المضمون نظرا لكثافته وغناه عند باشلار، لتنتهي عند حداثة الخاصية الكيفية لآليات إدراك الذات الإنسانية. حيث، تغيرت المداخل والعتبات، وتبلورت منظورات أخرى في تشكيل الممارسة المعرفية. يتحاور بوخليط بكل وثوقية مع باشلار، عن فهم مغاير للعالم داخل المختبرات والمعامل الكيماوية. كما يقف في الآن ذاته، باندهاش لافت، عند صداقة الفيلسوف الكبيرة للشعر والشعراء. أو بتعبير «فرانسوا داجوني» : «علمي مع العلماء وشاعري مع الشعراء». راسما، وهو يرتحل من الرياضيات إلى القصيدة جمالية للذكاء وذكاء للحلم. أول الأسئلة التي قد تقفز بهذا الخصوص، تلك المتعلقة بتجليات الاختلاف والوصل، داخل المشروع الباشلاري، بينما ينتقل من تفكيك الأسس الإبستمولوجية لأعتى النظريات الفيزيائية، إلى الذوبان في مدائن الرحيل الدائم كما رممتها نصوص كبار الصنعة اللغوية؟ على سبيل الذكر، يتعايش مع باشلار كل هؤلاء: ديكارت، رامبو، أينشتاين، بودلير، نيوتن، أدجار بو، هولدرلين، بلزاك، فلوبير، ريلكه، فاليري، سويذنبرن، سانت بوف، أفلاطون، برانشفيك، بوفون، كولريدج، ديدرو، ألبيربيجان، بوسكو، لوي غيوم، رونييه شار، فان خوخ، برجسون، كافكا، هيجو، جوبوسكي، جون هيبوليت، هنري ميشو، بلانشو، لوتريامون، نيتشه، بروتون...! لا يتعلق الأمر فقط بتشكلات مفرطة لشره القراءة العذبة، كما حاول باشلار تفسير ذلك بتواضع العلماء الكبار، لكنه إنتاج فكري رصين ودؤوب انبنى على منطلقات منهجية متينة، بلورت نسقا مذهبيا قائما بذاته».

الدرس الباشلاري

ويقول سعيد بوخليط إن عمله هذا يواصل» توسيع دائرة التعريف بالملامح الكبرى للدرس الباشلاري، وهو يتأرجح بين قطبي العلم والأدب مؤسسا لديكارتية جديدة بصدد التأريخ للعلم، كما قطع مع التجربة النقدية الكلاسيكية أو «النزعة العلموية» للقرن التاسع عشر فيما يخص الأدب. سعيا، لإحاطة أخرى بفكر باشلار، مركزة ومتعددة الخلفيات. جرى تقسيم المقاربة التي بين أيادينا، إلى أربعة فصول كبرى: مقاربات نظرية باشلارية، ترجمات باشلارية، قراءة باشلارية، حوارات باشلارية. إضافة، إلى مدخل تأطيري تفصيلي، تحت عنوان: «مع السيد باشلار». تناول الكاتب من هذا الجانب أو ذاك. تقول مقدمة الكتاب: «بعض تضمينات النظرية الباشلارية وبنياتها المعرفية ثم الجمالية، جاءت انطلاقا، من الثورة الكوبرنيكية التي مست جذريا نظرية الخيال كما أسستها الميتافيزيقا الغربية، أو التحويرات الباشلارية لما وضع له هنا كعنوان ثنائية: شعر/ علم. ثم الأبعاد الحلمية مثلا للدرس الكيميائي، مرورا بتمثلات باشلار لمجموعة من المفاهيم كعلاقته بالتحليل النفسي، تصوره للقصيدة، سجالاته الأنطولوجية مع برجسون حول نظرية الزمان أما باب الترجمات، فقد استحضر بدوره قضايا كثيرة، أهمها الوقوف على طبيعة التقييم المعرفي الممكن، لتناول الكتابات الباشلارية من قبل المترجمين العرب. نتلمس أيضا، من جهة أخرى، وقائع حية عن باشلار، وثقتها آثار صادقة لبعض معاصريه. نشدد هنا، على حوار «أندريه بارينو» مع باشلار سنة 1951، إلى جانب شهادة»بيير رومو» الذي عاشر الفيلسوف لسنوات طويلة حينما كان يشتغل بمكتبة معهد الفلسفة التابع للسوربون. بالتالي، نفهم جانبا من الظروف والسياقات السوسيو - معرفية، التي انتقلت بباشلار من موظف مؤقت بالبريد، إلى أحد الأعمدة المفصلية لتأسيسات الفكر الإنساني.


القراءة الحالمة

تبنى الفصل الثالث، تطبيقيا نموذج القراءة الباشلارية الحالمة، حينما فحص متواليات آخر الكتب التي أصدرها باشلار. نقصـد بـذلك، «شعلـة قنديـل» (1961) حاول من خلاله، مواصلة تبني المنهج الظاهراتي في قراءة الصورة الشعرية، بالوقوف عند أحلام اليقظة التي تتأتى للحالم وهو يجلس بالقرب من شعلة. في حين، انطوى الفصل الرابع على حوارين، مع باحثين معاصرين، كل يشتغل فكريا من موقعه، استنادا على الثوابت الجمالية والفلسفية الباشلارية. فالكولومبية «باريرا كلوديا فيرناندا» ناقشت أخيرا، رسالتها لنيل الدكتوراه بجامعة باريس 8 تحت إشراف «آلان باديو» متناولة بموضوعها : فينومينولوجية الافتتان.الرافد الشعري عند باشلار، وبالضبط مقاربته الظاهراتية للخيال. معبرة أكثر من مرة، عن رغبة جامحة لتأسيس فلسفة خاصة بها، تتمحور دائما حول تصورها لفينومينولوجية الافتتان، بناء على الأفكار التي جاء بها باشلار، لكنه لم يطورها كثيرا. أما الحوار الثاني، فقد توجه باستفساراته إلى باشلاري من رومانيا، هو الباحث «إيونيل بوز» رئيس مركز «ميرسيا إلياد» للأبحاث في المتخيل والعقلانية، الذي يقيم علاقات تعاون علمية مع «مركز غاستون باشلار» التابع لجامعة ديجون. يختزل «بوز» أسباب انفتاحه على فكر الفيلسوف الكبير، كونه يعتبر أحد الآباء المؤسسين لمفهوم المتخيل. دون نسيان بالطبع لصناديد آخرين مثل: غوستاف يونغ، جيلبير دوران، ميرسيا إلياد وهنري كوربان. يرصد سعيد بوخليط أهم اجتهادات باشلار ويحددها للقارئ بالملامح التالية:

■ قدرة عقلية تركيبية متينة ومتميزة، جعلت من الأفق الباشلاري لحظة إنسانية وفكرية تأسيسية لصيرورة التاريخ الإنساني.

 ■ عقلانية منفتحة جدا، مرنة، لينة ومنسابة: أعطى ذلك لبشلار إمكانية التأسيس لمفهوم جديد للتجربة الإنسانية من خلال ممكنات : العلم والأدب.

 ■ عقلانية، صاغت كل ملامح التأسيس. فاستحق بذلك لقب فيلسوف، تدين له المدرسة الفرنسية بخصلة أساسية تتمثل في كونه وعلى امتداد ثلاثين سنة منذ أطروحته لنيل الدكتوراه (1927) الى آخر مؤلفاته «شعلة قنديل» (1961)، وهي كذلك سنة وفاته. كان يبحث عن صياغة مفهومية لشيء اسمه الانفصال. وكأنه المخلص الذي يسعى الى تخليص الإنسانية من أزماتها الفكرية. فأجاد للعلم فلسفة بديلة، ومنظومة جديدة تعبر عن الثورات الفكرية بعد ما عرف تاريخيا بأزمة الأسس في الرياضيات، وكذا ظهور نظرية النسبية مع خلخلتها لبديهيات الفيزياء النيوتونية. وعلى مستوى النص الأدبي، فقد أعطى بالنظرية النقدية التي وضع أصولها الكبرى نفسا لانهائيا وطويلا للاشتغالات النقدية والأدبية. ولن نبالغ إذا قلنا، بأن كل النظرية الشعرية الجديدة قد خرجت من لحية باشلار.

■ عقلانية تتوخى المزاوجة والجمع بين المفهوم بكل إحالاته المستندة على الصرامة والضبط النظريين. ثم الصورة البلاغية بكثافتها الشاعرية، والتي تختزل التجربة الإنسانية في مجملها.عقلانية أوجدت للحقول المعرفية أدوات إجرائية للبحث والتفكير. والمفهوم الباشلاري، استثمره فوكو وألتوسير وكانجليم وبارت وجينيت وبوبر.

يشير الأستاذ بوخليط أن «عقلانية باشلار، قمة إنسانية بامتياز. ولا أدل على ذلك، أن الخيط الرابط لكل كتاباته من الفيزياء إلى الكيمياء، مرورا بالخيمياء والشعر والفلسفة. وكذا أبحاثه الميتافيزيقية والأنطولوجية، ثم المادة ومكونات العالم سواء في بعدها الفيزيائي أو الحلُمي. النقطة المشتركة لكل ذلك، تتمثل في لعبة الحلم. مضمون الدرس الباشلاري: إن الذي يسعى الى إدراك هندسة القنبلة الذرية، عليه كذلك استحضار الخصوبة المجازية والبلاغية لصور شعراء كبار أمثال: بودلير، شيلي، نيتشه، ريكله، نوفاليس، رامبو، لوتريامون، فيكتور هيغو».

وبرأي الدكتور بوخليط فقد «تحولت مدرسة العلم مع باشلار، من ممارسة نظرية دوغماطيقية تقوم على محددات قبلية إلى إمكانية فكرية منفتحة باستمرار. ذلك، أن الثورات الفكرية الكبرى التي عرفتها الممارسة العلمية مع البدايات الأولى للقرن العشرين، اقتضت من الباحثين والفلاسفة افتراض منظومة فكرية مغايرة من معطيات العلم الكلاسيكي التي تحولت بصيغة ما إلى عائق إبستيمولوجي معرفي أمام الممكنات الجديدة التي أوجدها العقل الإنساني. وبالفعل شكلت كتابات باشلار في هذا السياق معطى أوليا وأساسيا. كما اعتبر أن المشروع الباشلاري «تأسس على رافدين أساسيين: العلم والقصيدة. ومن أجل فهم حقيقي لتصور باشلار، يجدر في حقيقة الأمر الربط داخل سياق واحد بين صياغة العلم بمقولة المفهوم (العلم)، وكذا تمثل الذات الإنسانية للأشياء والمكونات الكوسمولوجية بنوع من الحلُمية الشاعرية. انطلاقا بطبيعة الحال من الألفة والحميمية وخاصة الدهشة التي تؤسس علاقة هذه الذات بالهنا والهناك. كما يعتبر أن نظرية الخيال، تجسدت في «البوتقة وكذا اللحظة المفهومية التي بإمكانها إعطاء وحدة لنظرية باشلار سواء في مقاربتها لنصوص الكيميائيين والفيزيائيين، أو حينما تستلهم المناخ «الحلُمي لنصوص شعرية كبيرة كتلك التي لـ : شيلي/ رامبو/ نوفاليس/ بودلير/ إدغار بو/ نيتشه/ هيغو/ بروتون/ أراغون/ غيوم...باشلار، هو دائما نفسه».

 نشير إلى أن سعيد بوخليط حاصل على درجة الدكتوراه في الآداب، وهو عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو جمعية أصدقاء غاستون باشلار، وعضو جمعية الشاعر الفرنسي لوي غيوم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق