أو البحث عن حدود جديدة للمنهج الباشلاري[i]
La psychanalyse du fev(1939)
|
استند النقد الباشلاري لقراءة الإبداع الأدبي في مرحلة أولى على
اكتشافات التحليل النفسي، وكان ذلك في البدايات الأولى لاهتمامات باشلار الإبداعية
وبداية مشروعه لدراسة العناصر، حيث حاول البدء بإزالة كل التصورات الخاطئة التي
تغلف رؤيتنا للنار، وفي سبيل ذلك سيحاول القيام بتحليل نفسي لمجموع المعارف التي
شكلناها حيال النار وتحديد العوائق الابستمولوجية التي شكلت دائما حاجزا أمام
بلورة تصورات موضوعية فيما يخص هذه النار. ثقافة ومنظومة العقد و
العوائق ستمكننا إذن من نسج معرفة حقيقية و صحيحة، تفصلنا بشكل كلي عن الماضي غير
العلمي لكل التاريخ المعرفي للنار، و بمعنى غير مباشر تجاوز الرؤى والأحاسيس
الذاتية المستندة على أحكام قبلية خاطئة. فما هي إذن، أهم الأطروحات المفاهيمية
التي جاء بها كتابه التحليل النفسي للنار؟ والذي يشكل في حقيقة الأمر بداية تشكل
ملامح القطيعة بين أبحاثه في العقل العلمي، ثم تلك التي ستتوخى الإنسان الحالم
والشاعري.
لاشك أن الوقوف أمام الأشياء و المكونات الكوسمولوجية للعالم، ومن
خلال بعدي الدهشة و الإعجاب التي تثيره هذه الأشياء اتجاه الإنسان، فإن ذلك يعمل
على انتفاء الموضوعية والفصل بين الذات والموضوع، الذي هو أساس كل موضوعية علمية.
فإن باشلار يؤكد أنه لا يمكن تحقيق ماهية العلمي من خلال مبدأ الموضوعية إلا
بالمعطيات المعرفية التالية:
1 – رفض المعطى أو الشيء الفوري.
2- القطع مع الإغراء الذي يحدثه الاختيار الأول.
3- العمل على تجاوز والقطع مع الأفكار التي تولد في سياق الملاحظة
الأولى.
لأن من أهم أسس الموضوعية، التشكيك في القيمة المعرفية لهذا الاتصال
الأول و بالتالي عليها أن تنتقد كل شيء:
الإحساس.
الحس المشترك.
الممارسة الاعتيادية.
الإتيمولوجيا.
لهذا على الفهم الموضوعي، أن يتأسس على عملية فكرية يمكن أن تأخذ طابع
السخرية و التهكم وكذا التيقظ والاحتراس.ذلك يفترض منا التجرد من القيم والأحاسيس
الذاتية حتى ندرك حقيقة الأشياء.يقول باشلار في هذا السياق إن (محاور القصيدة
والعلم متعارضة.كل ما تطمح له الفلسفة هو جعلهما متكاملين وتوحيدهما باعتبارهما
متناقضين جدا. يجب إذن مقابلة الفكر الشعري الصريح مع الفكر العلمي الصامت، والذي
بالنسبة إليه فإن النفور السابق احتراس سليم).[2]
يؤكد باشلار بأن النار لم تتم أبدا دراستها بشكل موضوعي. أفق لم
يتحقق، لأن الإثارة التي تحدثها النار تأخذ دائما حتى بالعقول الأكثر استقامة، و
بالتالي تشتغل داخلها النوازع و الأحاسيس الشعرية و كذا التأملات الشاردة.و
بالتالي من أجل الوقوف والكشف عن ذلك، من الضروري القيام بتحليل نفسي للنار،
وبالضبط إعادة تحليل اعتقاداتنا التاريخية حيال النار.
هذا الموقف المعرفي من النار أثر بشكل مباشر عن الإنتاج النظري
المتعلق بها، لذلك فإن العلم المعاصر حسب باشلار لم يلتفت كثيرا إلى ظاهرة النار.
وبالتالي فإن كتب الكيمياء لم تخصص إلا فصولا قصيرة جدا ومختزلة للنار. و يضيف
باشلار، بأنه حينما يطرح التساؤل عن ماهية النار؟ على المثقفين بل و حتى العلماء،
فإنه في حقيقة الأمر لا نحصل إلا على أجوبة عامة، تكون في الغالب تحصيل حاصل و
تكرر بشكل لا واع النظريات الفلسفية القديمة. السبب في ذلك يعود إلى أن المسألة لا
تطرح في سياقها الموضوعي السليم، بل يختلط الموقف المعرفي بحدوس واستلهامات ذاتية.
لذلك فإن النتائج تكون متسرعة وفورية تفتقد إلى شروط الفكر العلمي
الصحيح. إن العناصر القديمة للتفكير البدائي لم يتم تجاوزها مع تشكل الفكر العلمي
المعاصر، بل إن العالم نفسه لا يكون في حصن من هذه التقييمات البدائية والأولية.
يقول باشلار بأن كتابه حول النار يستهدف ( تخليص الفكر من غبطاته، وكذا النرجسية
التي تعطيها له البداهة الأولى. وتمكينه من يقينيات أخرى غير التملك، ثم قوى أخرى
في الاعتقاد غير الهمة و الحماسة. باختصار، براهين لن تكون شعلا فقط ) [3].
أعلن باشلار منذ مقدمة الكتاب، أن هذا العمل يقدم نموذجا عن التحليل
النفسي الذي يتوخاه و هو في نظره مفيد وضروري لكل الدراسات الموضوعية. إنه في
حقيقة الأمر توضيح وتبيان لبعض القضايا التي طرحها قبل ذلك في كتابه " تشكل
الفكر العلمي: مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية "[4].التحليل النفسي للفكر العلمي، يمكن في حقيقة الأمر من الكشف عن
الإغواءات والإثارات الأولى، و هي البنية الفكرية التي تعمل على تضليله من أجل
الكشف عن الحقيقة الموضوعية، لذلك يدعوا باشلار إلى تبني الخطوات البيداغوجية
المعرفية التالية: ( من الضروري أن يثابر كل واحد منا على تقويض اعتقاداته الذاتية
غير المنتقدة، و أن يتعود على التخلص من صلابة عادات الفكر التي تشكلت بتأثير من
التجارب المألوفة، و على كل واحد منا كذلك أن يبدد بعناية أكثر مخاوفه
"مجاملاته " و مراعاته للحدوس الأولى )[5] بمعنى آخر، دون هذه القدرة الذاتية على تجاوز منظومة الأحكام
الذاتية و الماقبلية التي تؤسسها الثقافة الاجتماعية والفكر المهيمن، فلا يمكننا
إدراك هذا الموقف الموضوعي الذي يمكننا فعلا من الوصول إلى حقيقة الشيء.
بخلاف العناصر الكوسمولوجية الأخرى، فإن النار تشكل عنصرا بإمكانه
تقديم تفسيرات مختلفة، بحسب تعدد و اختلاف حقول و مجالات الاشتغال الإنساني.
النار يمكن أن تحمل تعددا قيميا يعطيها هذه القدرة على إظهار القيم
ونقيضها في نفس الآن فهي حميمية وكونية، تضيء و تحرق، موقد وقيامة، علاج وحريق …. يلامس باشلار ذلك بقوله: ( تقدم النار و الحرارة وسائل للتفسير
في الميادين الأكثر تنوعا، إنهما بالنسبة إلينا فرصة لذكريات خالدة،وتجارب بسيطة و
حاسمة. النار إذن، ظاهرة متميزة، يمكنها تفسير كل شيء.إذا كان كل ما يتغير ببطء
تفسره الحياة، فإن الذي يتغير بسرعة يفسر بالنار، النار هي الحي جدا.إنها حميمية
وكونية تعيش في قلبنا كما تعيش في السماء ومن بين كل الظواهر، فإنها حقا الوحيدة
التي يمكنها الحصول أيضا بشكل واضح على القيمتين المتعارضتين: الخير والشر)[6].
إن ظاهرة بهذا الحجم لا يمكن إلا أن تكون مثار تفسيرات ذاتية أكثر
منها عقلية، ومرتبطة باستيهامات وخيالات. من هنا تظهر القيمة النظرية لدعوة
باشلار، والمتمثلة في تبني رؤية موضوعية حتى يتم بالتالي الكشف عن هذه الأرضية
والبينة اللاعقلية التي تحكم مفاهيمنا في أكثر الأحيان، وتعكس آثار وامتدادات
" التجربة الطفولية " في التجربة العلمية، شيء يحتم علينا استحضار مفهوم
" لا وعي الفكر العملي".
ولا شك انه من نتائج ذلك، مقاربة النار بحمولة معرفية تسند مقوماتها
أكثر من المنظومة الاجتماعية والرؤى التي تأسست داخل السياق الاجتماعي، فما نعرفه
عن النار مرتبط في مجمله بالتقديرات القائمة، مما يجيز إمكانية القول بأن الخوف من
النار أو التقدير أو الاحترام هو في أساسه موقف تحكمه خلفية اجتماعية أكثر منه
استنتاج طبيعي.
مجموع هذه المنظومة وضعه باشلار تحت اسم عقدة "
بروميثوس" حيث تكون الموانع الاجتماعية، القاعدة الأساسية التي
تحكم موقفنا من النار، يقول في هذا الإطار: (إذا اقتربت يد الطفل من النار، فإن
والده يضربه على أصابعه بمسطرة. النار تصفع دون أن تكون في حاجة إلى أن تحرق. أن
تكون هذه النار شعلة أو حرارة، مصباحا أو موقدا، فإن انتباه الآباء هو نفسه. النار
في الأصل موضوع للمنع العام، من هنا هذه الخلاصة: المنع الاجتماعي هو معرفتنا
العامة الأولى بالنار، ما نعرفه أولا عن هذه النار هو أنه لا يجب لمسها)[7]. ويضيف موضحا الطبيعة المعرفية لهذه العقدة قائلا: ( نقترح إذن
بأن يصنف تحت اسم عقدة بروميثوس كل الميول التي تدفعنا إلى أن نعرف قدر آبائنا
وأكثر منهم، وعلى نفس مستوى أساتذتنا بل واكثر منهم )[8].
لقد قارب التحليل النفسي الكلاسيكي أحلام النار بشكل مستفيض، وكانت
تحليلاته تأخذ بالتأويل الجنسي. باشلار يدعو إلى تعويض دراسة الأحلام بدراسة
التأمل الشارد La rêverie، وبالضبط في هذا الكتاب سيتوخى القيام بدارسة التأمل الشارد أمام
النار، موضحا في هذا السياق أوجه الاختلاف المعرفي والأنطولوجي بين الحلم والتأمل
الشارد بقوله: ( يسير الحلم Le rêve خطيا ناسيا طريقه وهو يمر. التأمل الشارد La rêverieيشتغل كنجم، يعود إلى نقطته الأساسية لكي يرسل أشعة جديدة.وبالتحديد
فإن التأمل الشارد أمام النار، العذب والمدرك لسعادته هو التأمل الشارد الأكثر
عفوية في تمركزه)[9].
النار المنحصرة في الموقد تمثل بالنسبة إلى الإنسان المجال والموضوع
الأول للتأمل الشارد، فهي رمز ودعوة للاستراحة والهناء. وهكذا لا يمكننا بالفعل
تمثل الأبعاد السيكولوجية والأنطولوجية ( لفلسفة الاستراحة) دون التأمل الشارد
أمام الموقد والنار المشتعلة. الجلوس أمام النار يثير مجموعة من التأملات الشاردة،
قد تأخذ أبعادا وحمولة فلسفية. ولعل أهم قيمة وجودية توحي بها النار، هي أنها تقدم
نموذجا حيا عن التغير والتحول، لأنها تؤسس الزمانية واللحظة وتدفع بالحياة إلى
حدودها القصوى.
التأمل الشارد أمام النار يعطي بعدا تراجيديا للقدر الإنساني، يتمظهر
في عقدة توحد ثلاثة معطيات إنسانية أساسية:
-عشق واحترام النار
-غريزة الحياة وكذا الموت
يختار باشلار لهذه العقدة اسم " اومبيدوكل" Empedocle، يجتمع الحب والموت
والنار في نفس اللحظة الوجودية، ليؤسسوا في نفس الآن مفهوما للخلود.
تحمل النار مجموعة من الدلالات الفلسفية الأخرى للموت تتجاوز في
نواحي كثيرة المستوى البيولوجي لتأخذ أبعادا انطولوجية أكثر عمقا. يخلق التأمل
الشارد أمام النار موتا حميميا، يندثر العالم المادي في أفق البحث عن المطلق. يقول
باشلار:(الموت داخل الشعلة هو الأقل انعزالية من بين كل الميتات. حقا أنه موت
كوني، حيث يتلاشى عالم بأكمله مع المتأمل. المحرقة Bûcher رفيقة التطور)[10].
لقد أخذ التحليل النفسي منذ مدة على عاتقه دراسة الأساطير
والميتولوجيات، وقد أوجد في سبيل ذلك مادة غنية للتفسير من أجل إيضاح الأساطير
التي تحيط باكتشاف النار. لكن مسار هذا التحليل النفسي، باستثناء أعمال يونغ C.G.jung لم يدرس
بما فيه الكفاية التفسيرات العلمية والموضوعية التي قاربت وتناولت اكتشافات
الإنسان البدائي.ذلك أن أهم ما يمكن مؤاخذته على التفسيرات العلمية المعاصرة هو
كونها، لا تستجيب للأفق المعرفي وكذا المناخ الذي يحكم
اشتغالات الإنسان البدائي. ذلك أنها تقوم على اسقاطات عقلانية متسرعة جدا، دون
إحاطة بالشروط والمعطيات البسيكولوجية للتفكير البدائي، من هنا يؤكد باشلار ضرورة
وجود تحليل نفسي، يسعى إلى ملامسة اللاوعي تحت الوعي، والتأمل الشارد بين ثنايا
التجربة.
ولعل أهم قضية يطرحها الاشتغال حول النار، والتي يمكن أن تعرف مجموعة
من الإسقاطات المفاهيمية الخاطئة هي المعطيات التي ألصقت بــ "الاحتكاك
" كعملية تؤدي إلى النار. لقد غيبت التفسيرات الموضوعية، الشروط البسيكولوجية
والنفسية التي قادت إلى التفكير في حك قطعتين وبالتالي إشعال النار. في هذا السياق
يؤكد باشلار بأن الحب تجربة مرتبطة بأبعاد جنسية ودوافع حميمية يقول: ( الحب هو
الفرضية العلمية الأولى من أجل الإنتاج الموضوعي للنار. بروميثوس عاشق قوي أكثر
منه فيلسوف ذكي. وانتقام الآلهة هو انتقام للغيورين )[11].
لا شك أنه من بين الوسائل الأكثر تداولا لدراسة بسيكولوجيا الإنسان
البدائي تتجلى بالأساس في دراسة الشعوب والقبائل البدائية الموجودة إلى حد
الآن.لكن بالنسبة إلى التحليل نفسي للمعرفة الموضوعية، فإنه توجد ممكنات أخرى من
أجل تمثل"البدائية" يتعلق الأمر في الواقع: ( النظر إلى ظاهرة
جديدة حتى نلاحظ صعوبة الموقف الموضوعي الملائم حقا. يظهر بأن ما خفي من الظاهرة
يتعارض تماما وبقوة مع تموضعها. ولا يتلازم الشيء الخفي مع الجهل ولكن بالخطإ. حقا
تحت الشكل الأكثر ثقلا للأوزان الذاتية المطروحة)[12]، المنهجية التي يقترحها باشلار تقوم على
ضرورة الوقوف على ردود الفعل، وكذا تفاعلات العقول غير العلمية اتجاه الظواهر
الجديدة.
إن عملية كالاحتكاك تفترض من الباحث، إضافة إلى استحضار المكونات
النفسية، التخلص من كل الحدوس واليقينيات الذاتية التي غالبا ما تستلهم مرجعياتها
من المعطيات السائدة، وفي هذا الإطار فإن باشلار يقترح تبني المنهجية التي دعا
إليها عالم نفس الأعماق " كارل غوستاف يونغ" والمتمثلة في البحث نسقيا
ومنهجيا عن المكونات الليبيدية في نشاط الإنسان البدائي بل إنها تحكم كل أنشطة
الإنسان العامل أو الصانعL’homme faber. الإحساس بالدفء والسخونة يؤدي إلى الشعور بالسعادة، وبالفعل فإن
قصيدة كتلك التي لـ " نوفاليس " تقدم تأويلا جديدا للبدائية وللعلاقة
الحميمية بين السعادة والنار. هذا الطابع المميز للقصيدة النوفالسية، دفع باشلار
إلى إعطائها سمة عقدة تؤلف: (بين الاندفاع نحو نار آثارها والاحتكاك والرغبة في
دفء مقتسم. هذا الاندفاع سيؤسس ثانية الغزو القبل –تاريخي Préhistorique للنار في بدائيته الحقيقية. تتميز عقدة نوفاليس بالوعي بدفء
باطني يتصدر دائما علما بصـريا كليا للــنور )[13].
لقد ظل اكتشاف واجتياح النار مرتبطا في دوافعه الأولى بوازع جنسي. هذه
النار المجنسنة Sexualisé والمفاهيم التي ارتبطت بها، أحدثت دائما اضطرابا
وتشويشا من أجل الوصول إلى نتائج موضوعية يقينية خالية من كل معطيات الفكر – الماقبل علمي.ويمكن أن نستشف هذه الأبعاد الجنسية في تأملنا
لمجموعة من النصوص التي قاربت النار، وبالتالي ارتبطت بشكل غير مباشر بهذه الثقافة
التي تحول النار إلى عنصر جنسي بامتياز، يظهر ذلك:
1-أن النار لها خصائص ومحددات الكائن الحي، بل إنها تخضع لنفس منطق الدورة
البيولوجية من ولادة وفتوة وشيخوخة وموت.
2-النار عنصر يتميز بخصوبة كبيرة، تؤخذ في أبعادها ومحدداتها الجنسية.
3-النار بذرة أو شرارة تكون سببا وعلة لظواهر كبيرة.
تصورات وأخرى ترتبط أكثر بالثقافة الإسقاطية، انطلاقا من مركزية
إحيائية، وبالتالي فهي تشكل عقبة أمام كل فهم موضوعي وعقلاني لظاهرة مثل النار.
دعوة باشلار، تقوم على أساس تطهير العقل الإنساني من كل هذه الرواسب المعرفية،
والتي تجد جذورها وأصولها الأولى في الفكر الماقبل علمي. إن الوصول إلى نتائج
حقيقية يحتم على الباحث مقاربة الأشياء في مباشرتها يقول باشلار:( بمراكمتنا
لمجموعة من الحماقات نريد أن نعطي المثال عن حالة فكر ينجز كليا المجازات الفاقدة
للمعنى. حاليا، وبما أن الفكر العلمي قد غير كثيرا من بنيته، فقد تعود
على تحولات المعنى الكثيرة بحيث يكون في الغالب أقل تضررا من تعابيره، كل المفاهيم
العلمية أعيد تعريفها. لقد قطعنا في حياتنا الواعية مع الاتصال المباشر
بالاتيمولوجيات الأولى لكن الفكر القبل تاريخي Préhistorique أو اللاوعي بالأحرى، لايفصل الكلمة
عن الشيء.إذا تكلم عن شخص متوقد، فإنه يريد أن شيئا ما يحترق داخله)[14].
لقد ظلت النار مرتبطة في الثقافات القديمة –مع وجود امتدادات لذلك في الفكر المعاصر– بكل المجازات الجنسية فهي ترمز لمعاني الخصوبة والولادة
والفحولة والإنتاج والقوة … وبالفعل عبر
الفكر الخميائي ابتداء من مفاهيمه إلى نتائجه مرروا بكل أدواته المنهجية والتقنية
عن اشتغالات وأحلام ذات طابع جنسي لذلك يمكننا القول بأن الخيمياء: ( يجسد بلا
تحفظ وببساطة الخصائص الجنسية للتأمل الشارد للموقد. بعيدا عن أن يكون وصفا
للظواهر الموضوعية فإنه محاولة لوصف الحب الإنساني في قلب الأشياء )[15]. والقارئ لنصوص الخيميائين يلاحظ بجلاء
حيثيات هذا المعطى الجنسي في بعض المظاهر منها مثلا:
1-أن الموقد كان يأخذ دائما مظاهر وأشكال هندسية.
2-يوظف الخيميائي إناء يشبه الأجهزة التناسلية للمرأة أو الرجل.
3-تحدثت كتب الخيمياء بشكل مطول عن " زواج " الأرض والنار.
ومن أجل فهم ذلك الأصل الجنسي للأفكار المتعلقة والمتمحورة حول النار،
فإنه يمكننا أن نقف في كتب الخيمياء على: ( الوصف الطويل لزواج النار بالأرض.
يمكننا تفسير هذا الزواج انطلاقا من ثلاثة وجهات نظر: في دلالته المادية كما يفعل
في الغالب مؤرخوا الكيمياء وفي بعده الشعري كما هو الحال مع نقاد الأدب، ثم في معناه
الأصلي واللاوعي كما نقترح نحن)[17].
على كل تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية، أن يبدأ مشروعه بالكشف عن
الحدوس المرتبطة بالنار والتي في الأساس اعتقادات بدائية أكثر منها ممكنات
موضوعية. لقد كانت النار أول اكتشاف كبير ومثير للإنسان البدائي، وشكلت
في حقيقة الأمر مرحلة جديدة بالنسبة إلى الإنسان، وقطيعة كيفية مع " النمط
" المعيشي البدائي. تأمل النار فصل الإنسان بشكل كلي عن الحيوان، كما أعطته
قدرة على التفكير في تجاوز سطح الأشياء، كما كان الشأن مع الإنسان الصانع ليصبح
الأمر أكثر عمقا. ذلك أن الإنسان: ( الحالم أمام موقده، هو على العكس من ذلك إنسان
الأعماق والصيرورة، أو أيضا ولكي نعبر بشكل أفضل، تعطي النار للإنسان الذي يحلم
مغزى العمق والصيرورة ")[18].
تؤسس النار لقيم الحب والمعرفة، وتعطي إحساسا بوجود الآخر، ذلك أن
المساحة الحلمية التي يتمظهر فيها العالم من خلال الدفء والسخونة. تعطي
للوجود والإنسان وكذا الأشياء قيما ومفاهيم أخرى غير المستوى الحسي المباشر والذي
غالبا ما تصاغ قوالبه الميكانيكية بفعل الإنسان العامل في مستوى ثابت. إلا أن فكر
النار وكذا ثقافة النار أعطيا لهذا الأفق بعدا ديناميكيا وأكثر حركية. ذلك أن
مفاهيم الحدوث والتحول والصيرورة هي بالأساس نتائج لاكتشاف النار.
لقد راكمت الدراسات المرتبطة بالنار مجموعة من النتائج الخاطئة وذلك
نظرا إلى عجزها عن التخلص من المعطيات المعرفية التالية:
1-الحدوس الذاتية.
2-المنظومة الثقافية السائدة
وهي عوائق ابستمولوجية لم تلمس فقط الشعراء والأدباء والخيميائيين
ولكنها امتدت كثيرا إلى البيولوجيين والكيميائيين. تختلط عندهم الأفكار بالأحلام
وينتفي البعد الموضوعي وذلك نظرا إلى القيمة الاجتماعية الكبيرة التي تحتلها النار
في كل الثقافات الإنسانية. هذا الارتباط الحميمي، عمل على انتفاء كل المقاربات
العلمية الموضوعية.ومن أجل تحويل الفكر العلمي إلى فكر استدلالي، يدعو باشلار إلى
تحليل نفسي لهذا الفكر حتى يتم الوقوف عند البنيات الدائمة والثابتة باعتبارها
قيما لاواعية.
اشتغل الكميائيون بالنار لمدة طويلة انطلاقا من اعتقاد مفاده أن حل
لغز العالم واكتشاف أسراره يتأتى من الوقوف على حقيقة النار، فهي تشكل مفتاحا من
أجل فهم الكون ومعطياته الانطولوجية. النار سبب وعلة كونية يأخذها الباحثون
باعتبارها قيمة كلية، مسألة أدت إلى اختلاط الذاتي بالموضوعي في تقدير حقائق
النار، وقد تمظهر ذلك في الفكر الماقبل علمي بتوظيفه للنظريتين:
-الإحيائية Animiste
-الجوهرية Substantialiste
وبسبب ذلك ظلت النار مفتقدة لعلم خاص بها.
لقد عمل الباحثون دائما على إسقاط مجموعة من خصائص الكائن الحي
على النار وبالتالي فإن دور التحليل النفسي يتمثل في الكشف عن تسرب وانفلات مجموعة
من الاعتقادات الخاطئة إلى الرؤية العلمية الموضوعية. النار ظاهرة طبيعية تحكمها
قوانين كيميائية ذاتية، ومن أجل الوصول إليها ينبغي التخلص من كل التأويلات التي
يمكن أن تأخذ سمة ذاتية أو ميتافيزيقية أو إحيائية، أو افتراضها لجوهر لا يمكن
الوصول إليه. يقول باشلار: ( إن تحليلا نفسيا للمعرفة الموضوعية عليه استبعاد كل
الاعتقادات العلمية التي لا تتشكل بشكل خاص داخل التجربة الموضوعية )[19].
الدور الكبير الذي تلعبه النار في حياة كل واحد ثم المغالاة في
إحاطتها بمنظومة مفهومية تتجاوز في أحيان كثيرة التقدير الموضوعي لكي تأخذ أبعادا
أسطورية أثر كثيرا على الدراسة العلمية. وحتى نعرف حدود ودرجة مستوى هذا الاختلاط
والتمازج فإن باشلار يضع مؤشرا ومقياسا لذلك بقوله:( إذا كانت الاعتقادات الشخصية
تتجاوز داخل تجربة حصيلة المعارف التي يمكننا توضيحها واختبارها ثم التذليل عليها،
فإنه يتحتم القيام بتحليل نفسي)[20].
اعتقد الكيميائيون لمدة طويلة، أن للنار قوة باطنية وجوهرية تتناقض
تماما مع كل ما يمكن أن تعكسه مظهريا. هذا التصور الميتافيزيقي وما ترتب عليه من
استدلالات أخرى، عرقل كثيرا مسألة إيجاد علم خاص بالنار.
شكل اكتشاف الكحول بتناقضاته الفيومينولوجية الكثيرة المؤسسة لجسده
أرضية أخرى لكي تظهر بعض العقد المعرفية والتي عملت دائما على تعتيم الرؤية
الحقيقة للنار.
حدد باشلار بعض خصائص الكحول في:
-أنه ماء النار
-ماء يحترق ويشتعل لأقل شرارة
-يشبه في قوته التحطيمية "الماء القوي"
-يضع الكحول حرارته في جوف البطن الإنساني
-يظهر الكحول قوته من خلال كمية صغيرة.
مزايا من بين أخرى تؤثر بلا شك في التقدير الصحيح للكحول وبالتالي على
التحليل النفسي تجاوز الأفق المنهجي الذي من شأنه خلط الذاتي بالموضوعي وإعطاء
التجربة شروطها العلمية والمنهجية الصحيحة، فالكحول هو أكثر الأجسام قابلية
للاحتراق، حيث يشتعل لأقل شعلة وبالتالي حينما نشرب الكحول، فإن صورة ذلك يمكن أن
تأخذ مستوى كوننا ندخل النار إلى بطوننا. إن ذلك حسب باشلار يقيم الدليل
عن: ( تقارب التجارب الذاتية والموضوعية. هذه
الفينومينولوجيا المزدوجة تهيئ عقدا على التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية أن
يفككها من أجل العثور ثانية على حرية التجربة. من بين هذه العقد، توجد واحدة نوعية
وقوية جدا إنها تلك التي تغلف الدائرة تقريبا: حين تمتد الشعلة فوق الكحول،
وبالتالي تدلي النار بشهادتها وحكمها. وحينما يغتني ماء النار الأصلي جليا بالشعل
التي تلمع وتحرق، فإننا نشربه. وحده ماء الحياة من بين كل مواد العالم يقترب جدا
من مادة النار)[21].
وقد جعل شاعرا رومانسيا كبيرا مثل " هوفمان " من ظاهرة كتلك
قصيدة للشعلة عبر كل أعماله، ترسم ملامحها الكبرى وتحدد أفقها الإبداعي. وقد أخذت
بحسب باشلار طابع عقدة تخترق لاوعي " هوفمان " وتحمل اسم " عقدة
هوفمان " Le complexe de Hoffmann أو كذلك " عقدة بنش " Le complexe de punch. اللاوعي الكحولي، حقيقة أصلية وأولية في كل مقاربة لنص هوفمان،
ذلك أن الكحول يشكل مصدر الإلهام الأول والجوهري بالنسبة إليه.ليس بعامل ثانوي، أو
مجرد شراب للإثارة والهذيان، ولكنه في بعده الفلسفي والأنطولوجي يقدم مجموعة من
الإمكانات وذلك لتفسير الأبعاد الحلمية لقصيدة هوفمان. في مثل هذا الموقف، لا يكفي
العقل وحده، بل من اللازم استحضار كل المكونات الأخرى التي تدخل في العملية
الإبداعية وذلك حتى يتم الإحاطة بمحددات هذه العملية. ولعل من أكبر الثورات
المنهجية التي يمكن أن تتحقق في هذا الإطار داخل الدرس الباشلاري هو تحديده لمفهوم
العنصر داخل النص، والذي يشكل محورا تنطلق منه مختلف التوليدات الإيحائية الأخرى.
في هذا السياق مثل بالفعل كتاب " التحليل النفسي للنار " ثورة معرفية
حقيقة تنضاف إلى مجموع الثورات التي جاءت بها المقاربات الباشلارية لماذا ؟ لأنه
يشكل لبنة أساسية لنظرية سيشتغل عليها باشلار فيما بعد، مكرسا لها جل أعماله،
يتعلق الأمر بنظرية العناصر الأربعة: الماء والنار والهواء والأرض. وقدرتها
الابستيمولوجية والأنطولوجية على تصنيف الأمزجة والخيالات الشعرية يقول باشلار: (
إذا كان للعمل الحالي من فائدة، فإنه عليه أن يوحي بتصنيف للتيمات الموضوعية، التي
ستهيئ تبويبا للأمزجة الشعرية. لم نتمكن بعد من ضبط نظرية شاملة، لكن يظهر لنا
جيدا بأنه هناك بعض الصلات بين نظرية العناصر الفيزيائية الأربعة وكذا نظرية الأمزجة
الأربعة. في جميع الأحوال فإن النفوس التي تحلم تحت إشارة النار أو الماء أو
الهواء تظهر إلى أي حد هي مختلفة )[22].
في تطوير ما سماه باشلار بفيزياء أو كيمياء التأمل الشارد، يمكننا
الوصول إلى نظرية رباعية للأمزجة الشعرية. يظهر في هذا العمل، النزوع العلمي
الموضوعي حيث السعي إلى تقنين التأمل الشارد في محددات نظرية تحكم صيرورته
وانسيابه. هناك من يحلم بالنار أو الماء أو الهواء أو الأرض. أربعة ميادين تكشف عن
وفاء كوسمولوجي للمبدع اتجاه كل واحد من هذه العناصر الأربعة: ( قل لي ما هو شبحك؟
هل هو عفريت، مدفأة، حورية البحر أم سلفة؟)[23] إحالة بمعنى من المعاني إلى الأرض أو
النار أو الماء، أو الهواء.
العمل الحالي إذن بحسب باشلار يمكن أن يقدم نفسه كفيزياء أو كيمياء
للتأمل الشارد، فهو يقنن الشروط الموضوعية لهذا التأمل، لذلك يجب أن يهيئ الأدوات
النظرية والمنهجية من أجل نقد موضوعي بالمفهوم الدقيق للكلمة يتجلى ذلك:
- كل مبدع عليه وضع رسم تخطيطي Diagramme، يشير إلى معنى وتماثل La symétrie وانتظام مجازاته. النقد الموضوعي عليه أن يظهر بأن: (
المجازات ليست مجرد أمثلات تنطلق كشهاب، لكي تندلع في السماء وهي تفرض لادلالاتها،
ولكن بالعكس من ذلك فإن المجازات تستدعي وتتماثل أكثر من الأحاسيس إلى حد أن فكرا
شاعريا هو ببساطة وبلا قيد تركيبا للمجازات)[24].
-الرسم التخطيطي الشعري ليس فقط رسما ولا بيانا، بل عليه أن يجد وسيلة
تدمج الترددات، والالتباسات والتي وحدها يمكن أن تحررنا من الواقعية.
-الرسم التخطيطي الشعري، عليه أن يظهر ويبين تفكيكا للقوى وذلك بالقطع
مع مبدأ وحدة التركيب.
إن القيمة المعرفية والفكرية لباشلار، تتجلى بالأساس في خاصيته
الانفتاحية الكبرى والذي أعطاه هذه الرؤية النقدية للتأسيسات المفاهيمية
الكلاسيكية وصياغة أخرى قادرة على خلق وإضفاء ديناميكية جديدة. في هذا الإطار،
يمكن أن ندرج مقاربته لبعد مفهومي جديد، وهو يخضع النار لمنظوره النفسي، هذا
المفهوم هو ما اصطلح عليه بالتسامي الدياليكتكي والذي يختلف في صيرورته
عن التصور الكلاسيكي للتسامي. أو بتعبير باشلار التسامي المستمر أو المتواصل (La sublimation continue) والذي يشكل الموضوع الأساسي للتحليل
النفسي الكلاسيكي.
يمكن أن نستشف المعطيات البيداغوجية، لهذا المفهوم الجديد للتسامي في:
1- إن التسامي في المنظور الباشلاري لا يأخذ بعدا مرضيا أو
إكلينيكيا، بل هو ضرورة طبيعية في مسار الذات البسيكولوجي، ليس فقط لتعيد خلق
توازنها النفسي، ولكنه آلية أساسية في إعادة صياغة المساحة التأملية والأداتية
التي تخلقها هذه الذات مع العالم. يقول باشلار في هذا السياق: ( فيما يخصنا، فإن
تطبيق مناهج التحليل النفسي داخل نشاط المعرفة الموضوعية، أوصلنا إلى النتيجة
التالية، بأن الكبت نشاط طبيعي ومفيد. أو بشكل أفضل فهو نشاط مرح.لا فكر علمي دون
الكبت، وهو أصل الفكر اليقظ، المتبصر والمجرد )[25].
وللوقوف على طبيعة هذا التسامي الجديد، يؤسس باشلار لمنهجية جديدة
تقوم على وضع المدهش والعجيب والمثير مكان الضروري والأداتي.
2-التأويل الواعي للكبت، وبالتالي تجاوز علم النفس الكلاسيكي. ولعل
هذا التقويم الجديد يعطي للذات قدرة كبيرة على إدراك الخطإ وكذا العمل على تقويمه
علميا وموضوعيا.
قبل هذا الأفق الفكري، كان الخطأ يشكل عرقلة لمسار الفكر وتشويشا على
هدوء العقل. إلا أن إدخال الكبت في المسار الطبيعي لآليات اشتغال الذات الإنسانية،
وفي إطار هذه الجدلية التي تعطي للخطإ قيمة الحقيقة المؤجلة، فإن العقل الإنساني
يجد سعادة وغبطة وهو يعيش هذه الإيقاعية.
إن ظاهرة كالنار بخاصياتها المتناقضة والمتعددة، تحتم افتراض منهجية
تقوم على الجدل، انطلاقا من الثنائية الكبيرة التي تحيط بالنار وهي أنه بقدر ما
تحرقنا فإنها تضيئنا. قطبين كبيرين تتوالد عنهما كل القيم الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق