الاثنين، 7 يوليو 2014

" شاعرية أحلام اليقظة " لباشلار : الوعي والحلم والطفولة

بقلم : إبراهيم العريس 


غاستون باشلار
 درس الفيلسوف والكاتب الفرنسي غاستون باشلار أحلام اليقظة في عدد لا بأس به من مؤلفاته، طوال ما لا يقل عن عقدين من الزمن. وكان ذلك بعد ان أشبع الأحلام العادية - وهي، طبعاً، غير أحلام اليقظة - دراسة، من الناحيتين الفلسفية والسيكولوجية في كتب عدة له كان أصدرها قبل ذلك، ومنها:"الماء والأحلام"وپ"الهواء والأحلام"وما شابه. ولكن اذا كانت دراسة، ولغة باشلار بالتالي في مجال الأحلام، بدت علمية تشتغل على مفاهيم وصيغ ومعادلات تبدو أحياناً شديدة القرب من الرياضيات، فإن كتابته عن أحلام اليقظة أتت غير ذلك تماماً. هنا يبدو الكلام شاعرياً، الى درجة ان فقرات عدة ستبدو منغلقة تماماً على من ليس شاعراً، أو من لا يجعل الشعر، كتابة أو نقداً، واحداً من اهتماماته الرئيسة.

ولئن كان باشلار درس أحلام اليقظة - في كتب عدة - عبر علاقتها بالكثير من الأمور الفكرية والشعرية، فإنه في الكتاب الذي"ختم"به السلسلة درس أحلام اليقظة في ذاتها ولذاتها... بدا همه هنا ان يدرس شاعرية أحلام اليقظة هذه، لغوياً في شكل خاص، ولكن على ضوء الكثير من المعارف، لا سيما التحليل النفسي ? في وجهه اليونغي، نسبة الى يونغ، أكثر مما في توجهه الفرويدي، أي تحديداً في التوجه الذي يوحد بينه وبين عالمي الشعر والأسطورة -. وقد جاء هذا في كتاب"شاعرية أحلام اليقظة"، الذي أصدره ليكون واحداً من آخر كتبه"العلمية"، حيث لم يصدر من بعده إلا"شرارة شمعدان"1961. وإذا كان كثر من قراء باشلار يرون أن"شاعرية أحلام اليقظة"هو أفضل كتبه وأكثرها اقتراباً من عالم الشعر، ما يبرر وصفه بأنه كان"أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، فإن هؤلاء يرون في الوقت نفسه ان صعوبة اللغة التي كتب بها هذا الكتاب تكاد تكون موازية لصعوبة منطق الشعر نفسه. وفي صفحات عدة من هذا الكتاب يبدو باشلار وكأنه يكتب شعراً. والحقيقة ان هذا ليس مصادفة. ذلك ان أحلام اليقظة، من الناحية التي تناولها فيها باشلار هنا، تبدو وكأنها هي هي الشعر نفسه. بمعنى ان لغة الشعر بالنسبة إليه نابعة، مباشرة، من أحلام اليقظة، تلك الأحلام التي هي موضوع الشاعر وجوهر كتابته. ومن هنا ليس صدفة ايضاً أن يكثر باشلار، في فصول الكتاب من الاستشهاد بشعراء ذوي نكهة خاصة من طينة بول فاليري وغابرييلا ميسترال، التي يلفته فيها كونها أنّثت المهد، جاعلة إياه"مهدة"كخطوة في سبيل استعادة أنوثة العالم في أحلام يقظتها.

إذاً، ما يتناوله باشلار في هذا الكتاب هو اواليات أحلام اليقظة وأنماطها، لاجئاً الى أسلوبه الفينومينولوجي، كي يفسر سيرورات أحلام اليقظة التي، يرى الكاتب، ان التحليل النفسي طويلاً ما أهملها، مركزاً كل ما لديه من جهود على الأحلام نفسها. ومع هذا، يقول لنا باشلار، لا بد من ان نقر أول الأمر بأن أحلام اليقظة تضع في متناولنا عالم الروح... تماماً كما ان"الصورة الشعرية"تشهد على الروح في عملية اكتشافها للعالم الذي تريد ان تعيش فيه. وهكذا، يقارب باشلار بصورة منطقية بين الشعر وأحلام اليقظة مؤكداً ان دراسة هذين معاً، ثم احلام اليقظة وحدها هي ما يسمح لنا بأن نبني صرحاً حقيقياً لفينومينولوجيا الروح. وللوصول الى هذا يبدأ باشلار صفحات كتابه بحديث يتسم بقدر لا بأس به من الذاتية، في مجال غوصه في ما يسميه"أحلام يقظة حول أحلام اليقظة". وهو يقسم رؤيته هنا قسمين: الأول هو"حالم الكلمات"، وهو قسم يشتغل تحديداً على أنواع الكلمات ودلالاتها، لا سيما في ما يتعلق بالتفريق الذي تقيمه اللغة بين ما يعتبره حلم اليقظة المؤنث والحلم المذكر. وهنا في هذا السياق يستعير باشلار، التمييز الذي يقيمه كارل غوستاف يونغ بين مبدأي علم نفس الأعماق الجدليين هذين، ليبرهن ان هذا التمييز يمكن ان ينطبق كل الانطباق على غرض دراسته: حيث"ان حلم اليقظة يكون دائماً تحت ظل الروح، ما يعني ان حلم اليقظة حين يكون عميقاً حقاً، تكون روحنا هي الكينونة التي تحلم لدينا". ويقول باشلار هنا ان أحلام اليقظة غالباً ما تأخذنا الى زمن طفولتنا... ولكن ليس الطفولة الحقيقية بل الطفولة"المحلومة"، أي نحو تلك"الصور الحبيبة"التي تظل محفوظة في ركن من اركان الذاكرة. فما معنى هذا؟ معناه بكل بساطة ان طفولتنا الحقيقية هي تلك التي تدوم معنا طوال حياتنا. وهنا لا بأس في ان نلاحظ كيف ان باشلار لشدة اهتمامه بهذه الناحية من عالم أحلام اليقظة، أي بأحلام اليقظة المرتبطة بالطفولة، يجعل منها ما يشبه التمهيد لما سيسميه هو، ودارسوه:"ميتافيزيقا الأمور التي لا تنسى".

> بالنسبة الى باشلار لا تشبه اللذة التي تنتج من حلم اليقظة، تلك الناتجة من الحلم. ذلك أن لذة حلم اليقظة واعية، راهنة ملموسة. وحالم الليل لا يمكنه ان يعلن فعل ايمان ما نابعاً من حلمه، لأن حلم الليل حلم من دون حالم. وفي المقابل ها هو حالم اليقظة يبدو قادراً في كل لحظة على ان يعي حلمه وعلاقته بحلمه ويقول:"إنني انا من أحلم حلم اليقظة هذا". وحين يتخلى تاركاً نفسه لأحلام اليقظة عن كل ما هو يومي، وعن كل هموم الحياة العادية، يجد نفسه بالتالي منفتحاً على العالم كما يجد العالم منفتحاً عليه. وهو بهذا - ودائماً بحسب تعبير باشلار - يصير"حالم العالم"ويكتشف ان حلم اليقظة إنما يساعده كي يسكن العالم... بل بكلمات أكثر دقة"كي يسكن سعادة العالم".

باشلار، من اجل ان يوصل أفكاره هذه الى غايتها، لا يكتفي - طبعاً - بمثل هذه التأكيدات النظرية، بل انه يكثر، كما أشرنا، من الاستشهاد بالكتاب ولا سيما بالشعراء، ولا سيما منهم الذين تمتلئ كتاباتهم بعبارات وسطور وأفكار تستخدم حلم اليقظة، أو ما يشبهه، أداة للتعمق في العالم وفهمه، بغية القيام بالمهمة التي يتعين"على الشعراء أن يقوموا بها"، أي تغيير هذا العالم نحو الأفضل. ومن هنا، حين يتحدث مثلاً عن غابرييلا ميسترال واشتغالها على تأنيث ما للغة، يربط هذا، بحلم يقظة تصفه الشاعرة في حديثها عن أمها يوم كانت هي طفلة في الرابعة وپ"كانت امي تهز المهدة - لا المهد - لي بيديها". وفي هذا الإطار واضح ان ما يتطلع باشلار الى الاشتغال عليه إنما هو نوع من اعادة الاعتبار الى أحلام اليقظة، تعتبر بالنسبة إليه عودة الى ما هو جوهري، أو في شكل أكثر علمية: اشتغال أكثر وضوحاً على صحة الروح وسلامتها. ولعل هذا كله هو ما جعل دارسي حياة باشلار وأعماله، يعتبرون"شاعرية أحلام اليقظة"واحداً من أجمل كتبه وأكثرها شاعرية وبالتالي: اكثرها ذاتية.


وفي إمكاننا طبعاً ان نذهب هنا الى أبعد من هذا لنوافق اولئك الذين - من بين دارسي فكر غاستون باشلار 1884 - 1962 - رأوا في"شاعرية أحلام اليقظة"خلاصة منطقية لكل كتبه ودراساته السابقة، ما يجعل من هذا الكتاب أشبه بوصية فكرية - ولم ليس ما يشبه السيرة الذاتية الفكرية؟ - لصاحب"حدس اللحظة"وپ"الروح العلمية الجديدة"وپ"التحليل النفسي للنار"وپ"الماء والأحلام"وپ"الأرض وأحلام يقظة الراحة"، وغيرها من كتب وأعمال فكرية طبعت جزءاً من ثقافة القرن العشرين، واشتغلت، بخاصة، في مجال التأثير في شعراء وأدباء كبار من ابناء أواسط القرن العشرين، ولا سيما في زمن كانت عقلانيته الطاغية تحاول ألا تترك مكاناً لمفكرين من امثال غاستون باشلار سعوا دائماً للمزاوجة بين الروح والمادة، الفكر والحدس في بوتقة فكرية وأدبية واحدة.

جريدة الحياة اللندنية 02/07/2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق