الخميس، 10 يوليو 2014

النقد الموضوعاتي

بقلم : محمد عزَّام


الاهتمام بالموضوعات (الثيمية (Thematique من خصائص النقد الموضوعاتي الذي يعتبر (الجذر) تجربة، أو سلسلة من التجارب التي تؤسس وحدة محدودة في النص الأدبي تشبه الخلية الرحمية، أو شبكة منظمة من الأفكار الملحة...‏
ويختلف (الجذر) عن(الفكرة الرئيسية) في أنه ليس ظاهرة لغوية، وإنما يظهر على شكل (رمزي). فإذا كان (الطير) فكرة رئيسية لدى مالارميه، فإن (الطير الميت، أو الطير الجريح، أو الطير الساقط) هو(الجذر) عنده.‏
وقد استعان النقد الموضوعاتي بتيّاري: الألسنية، والبنيوية، فرفداه بمصطلحاتهما، كما تأثر بالشكلين الفرنسيين، ووصل إلى أوجه في الستينيات من هذا القرن على أيدي نقاد كبار من أمثال جورج بوليه، وغاستون باشلار، وجان بيير ريشار، وشارل مورون، وجان بول فيبر، وغيرهم...‏
وسنعرض جهود كل ناقد من هؤلاء النقاد، على حدة‏ :

(1)غاستون باشلار (1884-1962):‏

غاستون باشلار (1884-1964)
يبحث (التحليل الظاهراتي) في (قصدية) الوعي. أي أن الوعي يتجه دوماً إلى (موضوع) ما. وقد وظف باشلار (ظاهراتيته) في دراسة (موضوع الخيال)، حيث رأى أنه لا يوجد (موضوع) دون (ذات)، وأن وظيفة (الظاهراتية) ليست في وصف الأشياء كما هي الطبيعة. فهذه مهمة عالم الطبيعة، وإنما في القدرة على استعادة الدهشة الساذجة حين رؤيتنا لأشياء الطبيعة. ذلك أننا ((حين نحلم، فنحن ظاهراتيون دون أن نعلم)). وأن (الموضوع) يتحدد من خلال غيابه، ومعايشتنا له. فإذن هناك (موضوع)، و(ذات) واعية، و(حلم) ينشأ بتأثير التقاء الذات بالموضوع.‏

هكذا يبدو أن للظاهرة الفنية بعداً موضوعياً وبعداً اجتماعياً، بالإضافة إلى البعد (الظاهراتي). ومن هنا محاولة باشلار إلقاء الأضواء على هذه الأبعاد جميعاً. ومن هنا -أيضاً- تعددية (المناهج النقدية) التي اعتمدها، وفتح أبوابها للدارسين بعده، حتى ليعد أباً لكثير من النقاد أمثال جورج بوليه، وشارل مورون، وجان ستاروبنسكي، ولوسيان غولدمان، ورولان بارت، وغيرهم....‏

والواقع أن الفيلسوف الفرنسي المعاصر غاستون باشلار  G. Bachelard (1884- 1962) قد مرّ بمرحلتين حاسمتين في حياته العلمية: الأولى انصرف فيها إلى دراسة المسائل التي تثيرها طبيعة المعرفة العلمية، حيث أكمل دراسته الفلسفية عام 1927. ونال الدكتوراه بأطروحته عن (فلسفة العلوم). فعيّن‏ أستاذاً في (ديجون) 1930، ثم في (السوربون) 1940.‏
وقد أقام شهرته، في هذه المرحلة، على ثلاثة عشر كتاباً، جمعت بين الكفاءة العلمية، والنفاذ الفلسفي، وكان جهده -كأستاذ جامعي- منصرفاً إلى النقد الفلسفي للفكر العلمي، ذي الرؤية العقلانية المتحررة.‏
أما المرحلة الثانية من حياته العلمية فقد انتقل فيها إلى تلمس (الموضوعات الظاهراتية) في العالم المادي مناقشاً إياها من خلال منظور (الخيال)، متحولاً من دراسة (فلسفة العلم) إلى دراسة (فلسفة الفن والجمال).‏

وقد درس باشلار (الصورة الشعرية)، واعتبرها (بروزاً) متوثباً ومفاجئاً على سطح النفس.‏
واتخذ منها (موقفاً موضوعياً) قدر الإمكان، مستخلصاً إياها من العناصر المادية الأربعة (الماء، والهواء، والتراب، والنار)، وهي العناصر الأساسية في نظريات نشوء الكون.‏
ثم بدا له أن (الصورة) المدروسة من خلال الذات لا يمكن فهم جوهرها من خلال الإحالة إلى الذات فقط، لأن (الظاهراتية) تستطيع استعادة ذاتية الصورة باعتبارها تنويعية، لا تكوينية.‏
ولذلك لابد من إسهام الذات (=الروح)، والعلم (=العقل) في دراسة ظاهرة (الصورة الشعرية). لأن الذات تمتلك داخلية ليست انعكاساً للعالم الخارجي. بل حالة نفسية تمتزج بالحلم، ويستريح فيها العقل، فالروح يقظة دون توتر. والعقل يضع لها المشاريع الأولية. ومن هنا فإن باشلار يميز بين (القارئ) العادي و(الناقد) الأدبي، فيرى أن الأول يكتفي بالاستمتاع بما يقرأ، بينما الثاني يتجاوز ذلك إلى معرفة كل شيء، والإحاطة بكل شيء، بل ومحاولة الخلق مع المبدع نفسه.‏
وإن شغف باشلار بالتحليل النفسي، كعلم جديد، ومعرفته بفرويد، ويونغ. جعلاه يسلّم بقراءة نفسية للأثر الأدبي، ويعتبرها وسيلة نموذجية لمعرفة الكاتب. وقد حاول تجديد النقد الأدبي عن طريق إعادة الاعتبار (للخيال المادي) الذي ينفذ إلى عناصر الكون، فأقام منهجه النقدي على (الحلم). ولم يقيّد نفسه بمنهج نقدي واحد، واعتبر (الصورة الشعرية) بثّاً واعياً تقوم به نماذج وأنماط أصلية (لا شعورية)، فتكسب (دلالة) جديدة قادرة على إشارة الأحلام. وتكتسب الصورة دلالة مزدوجة: فتعني شيئاً آخر، وتثير أحلاماً بصورة مختلفة. ذلك أن الخيال والأحلام والفكر هي التي تتكلم، من خلال الأدب الذي يروي رغبة إنسانية.‏
وقد طبّق باشلار منهجه (الصوري) في كتابه (الماء والأحلام) على (خيال) إدغار ألن بو فوجد أن صورة (الماء) هي التي تسوده. ((أو بصورة أدق ماء خاص، ماء ثقيل، أكثر عمقاً، وأكثر ركوداً من جميع المياه الراكدة العميقة. إنه عند بو الجوهر. الجوهر الأم)).‏
هكذا يرغب باشلار في أن يكون الناقد ذاتياً وموضوعياً في آن. وأنه ينبغي أن يتمّ فهم الأدب عن طريق (الصور الأدبية). ذلك أن أصالة الكاتب إنما تقاس بجدّة صوره، وأن (يحلم) الناقد مع الآثار الأدبية، لا أن يقتصر على (رؤيتها) فقط. مؤكداً عدم كفاية (النقد الكلاسي) الذي يردّ الإبداع إلى ما هو شعوري فقط في الإنسان، والذي يعدّ (الصورة) زمنية، أو نسخة عن الواقع فحسب، ناسياً (الوظيفة الشعرية) للصورة في إعطاء شكل جديد للعالم.‏

ويؤكد باشلار وجوب ربط (الحياة الخاصة للصور) بالنماذج (الأصلية) التي يكتشفها التحليل النفسي.‏
وعند ذلك تبدو الصور المتخيلة (تساميات) لهذه (النماذج) الأصلية، وليست إعادة إنتاج للواقع. ومن هنا رغبة باشلار في أن يكون الناقد يقظاً إلى أقصى حدود اليقظة، وأن يقرأ الأدب بإمعان، وأن يحصر همّه، لا في (عقدة) الكتاب، بل في البحث عن (الصور) الجديدة القادرة على تجديد (النماذج الأصلية اللاشعورية. لأنها هي وحدها العلامة على قدرة (الخيال) الخلاقة. وبهذا يبدو باشلار (حالماً) مع الآثار الأدبية أكثر منه (ناقداً) يصف هذه الآثار.‏
وتحت تأثير التحليل النفسي والاهتمام بالعناصر المادية الأربعة، وضع باشلار كتبه: التحليل النفسي للنار 1938، الماء والأحلام 1942، الهواء والأوهام 1944، الأرض وهواجس الإرادة 1948، الأرض وحلم الراحة. ولكنه في مرحلة تالية وضع مؤلفات تنتمي إلى (الظاهراتية) أكثر من انتمائها إلى التحليل النفسي، من مثل: شاعرية الفضاء 1957، وشاعرية أحلام اليقظة 1961. وفيها يدرس (الصورة الأدبية) لا على أسس نفسية لا شعورية، كما كان يفعل سابقاً، بل على أسس (ظاهراتية)، إذ لم يعد العمل الأدبي -عنده- يمتلك ماضياً، أو علاقة سببية بين (صوره) والنماذج الأصلية الكامنة في اللاشعور. بل أصبحت دراسة (الصورة والخيال) عنده تعني دراسة (ظاهرة الصورة) عند انبثاقها، باعتبارها نتاجاً مباشراً لكيان الإنسان في واقعه.‏
وهكذا أحدث باشلار (ثورة كوبرنيكية) في النقد الأدبي، عندما أعاد الاعتبار للخيال، ورأى أن مهمة الناقد هي أن (يحلم) مع المبدع، وأن يعثر على (الصورة الشعرية) في انبثاقها، وأن يدعها (ترنّ) في ذاته، وأن يكتشف (تنظيمها) السري.‏

***
(2) جان بيير ريشار:‏

Littérature et Sensation :
 Stendhal , Flaubert
وأما جان بيير ريشار J. P. richard فقد بدأ حياته النقدية عام 1954، وفي عام 1961 نال شهادة الدكتوراه ببحثه عن الشاعر الفرنسي مالارميه، وهو يعتمد على خلفية فكرية ونقدية تسمح له ببناء منهجه النقدي الخاص به، والذي يستند إلى الفلسفة الظاهراتية التي يمثلها إدموند هوسرل، والفلسفة الوجودية لدى جان بول سارتر، وفلسفة العناصر الأربعة عند غاستون باشلار.‏

وريشار هو أستاذ الأدب المعاصر في جامعة السوربون، وقد أمضى خمساً وعشرين سنة يدرّس الأدب الفرنسي في لندن ومدريد. واستفاد من أطروحات باشلار، وبوليه. وصاغ منهجاً نقدياً أطلق عليه اسم المنهج الموضوعاتي (التيمي). ووضع كتباً هامة من مثل: الأدب والإحساس (1954)، والشعر والأعماق(1955)، والعالم الخيالي لمالارميه (1961)، وإحدى عشرة دراسة في الشعر الحديث (1964). ومنظر من شاتوبريان (1967)، ودراسات في الرومانسية (1971)، وبروست وعالم الإحساس (1964)، وستاندال وفلوبير (1975). وقراءات مجهرية (1979)، وصفحات مشاهد (1984)...‏

و(الموضوع) أو (الثيمة) theme هو(المبدأ) الذي تلتقي عنده مفاهيم النص أو الكاتب. و(المحور) الذي تجتمع كلّ القرابات السّرية في النص، و(المركز) الذي تتوجه إليه الدراسة. فمنه تبدأ، وإليه تعود. فهو يوجّه العملية النقدية.‏
و(الموضوع)، عند ريشار، هو (وحدة) من وحدات (المعنى)، وحدة حسية أو علائقية أو زمنية‏
مشهود لها بخصوصيتها عند كاتب ما. كما أنها تسمح بالتوسّع الشبكي أو الخيطي أو المنطقي ببسط العالم الخاص للكاتب. وهو النقطة المركزية التي ينطلق منها الناقد، وإليها يعود. وحول هذا المحور النقدي تدور كل أبحاث ريشار ودراساته.‏
ويحدد ريشار (الموضوع) بأنه مبدأ تنظيمي محسوس، أو دينامية داخلية، أو شيء ثابت يسمح لعالم حولـه بالتشكيل والامتداد. ويكمن (الموضوع) في (القرابة السّريّة)، أو (العائلة اللغوية) التي يمكن عن طريقها تحديد (موضوع ما)، وتستند (العائلة اللغوية) إلى ثلاثة مبادئ: الاشتقاق، والترادف، والقرابة المعنوية.‏
ويتمثل (المنهج الموضوعاتي)، عند ريشار، في استنطاق مدلولات الصياغة اللفظية عبر ألفاظها وتراكيبها، وفق مبدأ التقدم والارتداد، وإضاءة المستوى اللغوي بالمستوى النفسي، وبالعكس.‏
وأحياناً قد يخرج على هذه (الموضوعية) الصارمة، المنهجية (الجذرية)، ويعتمد الذائقة الشخصية، فيترك الكلمة لانطباعية حادة، مؤكداً أن الأثر الأدبي لا يفهم إلا (كتنغيم) موسيقي، ومعتقداً أن النقد هو انطباعية على ضوء منهج خاص يعتمده الناقد وسيلة لإلقاء المزيد من الضوء على الأثر الأدبي. فالالتزام بمنهج نقدي صارم هو بداية الطريق. ولكن نهايته هي عودة إلى (الذاتية) لممارسة (انطباعية) حرة. ورولان بارت مثال جيد على ذلك، فقد انتقل من البنيوية الشكلية ذات المنهج الوصفي الصارم، إلى (النقد الحر) ولعبة عشق الكلمات، جرياً وراء (لذّة النص)، والسكر برحيقه. وكذلك فعل ريشار، في كتابه الأخير: قراءات مجهرية. حيث اكتشفت (الجذور) أولاً، وفق منهجه النقدي، ثم أطلق عنان انطباعاته الذاتية، لتؤكد هذه (الجذور)، وتنطلق منها إلى آفاق قراءات تأويلية حرة...‏
و(القراءة الموضوعاتية) هي مسح لحقول حسية معينة، من أجل تحديد أهم الخيارات الشخصية الفاعلة فيها، وبيان لكيفية ارتسام دلالات الأشياء المرغوب فيها على كل مستوى من هذه المستويات المنفردة، وبيان لكيفية ارتسام دلالات الأشياء المرغوب عنها والمستبعدة.‏
والمهم أن يكون المدلول (دالاً). لأن الاتجاهات (الدّالة) هي التي تغطي سجل الجرد والسجل المحسوس، لأن (الاتجاه الدّال) هو (المعنى) Sens. ذلك أن (القراءة الموضوعاتية) هي قراءة وصفية تُعني بالجرد والتنضيد والتصنيف، وتحركها الرغبة في كشف (التجانس) الذي يتجلّى في رسم مجموعة العناصر المعروضة، ينطوي كل منها على مجموعة من (النظائر) التي يمكن إبدالها من بعضها بعضاً. وهكذا يتبدّى (الموضوع) كإحدى مقولات (المعنى).‏
ويحاول ريشار العثور على (القصد) الأساسي للكاتب، أو (مشروعه) الذي يقود مغامرته الأدبية، أو (موضوعه) الذي يستحوذ على كامل اهتمامه، في مستواه البدئي، المحسوس، معترفاً بدينه، في هذه الخطوة، لباشلار. ومن أجل ذلك فهو يسجل كل الأشياء التي يعرضها الكاتب المشاهد، والأحداث، والأصوات، والصفات، والماهيات. ثم يحاول ربطها بعضاً، من أجل بناء نظام مسيرة معينة قام الكاتب بها.‏

ويتمثل منهج ريشار النقدي في البحث عن الاختيارات (والأفكار المتسلطة) على الكاتب، والمشكلات التي تكمن في أعماق وجوده الشخصي، وتراكيب أحلام اليقظة لديه. و(المركز) في شخصيته. ولتحقيق هذا الغرض فإن الناقد يحاول تأليف (متحف) من الموضوعات والصور والإيقاعات المفضلة لدى الكاتب،‏ باعتبارها وسائل التعبير الأولية التي يبدع الكاتب بواسطتها عالمه.
وهكذا يبدو (النقد الموضوعاتي) عند ريتشار تأملاً، واستنباطاً، وتجوالاً. وليس موقفاً مسبقاً، أو إلقاء نظرة، أو وقوفاً على مدخل الأثر الأدبي فحسب.‏
وتتمثل نقطة البدء في هذا المنهج في (إحصاء) مفردات، في العمل الأدبي. ففي موضوع (الحب) مثلاً تُحصى كل المفردات التي تتعلق به، من مثل: أحب، يحب، الحبيبة، المحبوب، الهوى، اللثم، القبلة... إلخ. ويتم تحديد العناصر التي تتكرر بشكل ذي دلالة لتوضع في مجموعات أو حقول شاقولية.‏
ثم تلي ذلك الخطوة الثانية، وتتمثل في (تحليل) مفردات كل حقل من حقول (الموضوعات) المستخرجة، ثم استخراج النتائج، وصولاً إلى شبكة (العلاقات الموضوعية) المعبّرة عن بنية الموضوعات، في مرحلة شعرية معينة. وهي أشبه ما تكون بالشجرة التي يمثل الموضوع الرئيسي جذعها، وتمثل الموضوعات الفرعية غصونها.‏
ولدى تطبيق ريشار هذا المنهج (الموضوعاتي) على أعمال إبداعية، وجد في آثار الشاعر الفرنسي الفرد دوفيني (خليّة الساعة)، ورأى أن مسرحيته (شاترتون) تدور حول هاجس الزمن، كما اكتشف (تجربة الهوّة) عند جيرار دو نرفال، وآرثر رامبو، وبول فرلين. ثم عمّم مفهوم (الهوّة) على مستويات الموضوع والعاطفة والشعور واللغة، واستنتج أن الوجود بالنسبة لهؤلاء الشعراء، ضائع في العزلة المأساوية التي أحاطوا بها أنفسهم، وأصبحت تكتنف نظرتهم إلى الحياة. ومن هنا (إشكالية) شعرهم، لموقفهم المعارض لموقف مجتمعهم، ولغوصهم في أعماقهم النفسية، بهدف استكشافها.‏
كما درس مالارميه، وهو شاعر ذو صياغات لغوية غامضة ومكثفة. وقد حاول ريشار اجتذابه إلى منطقة السهولة والوضوح، وحاول تأليف (متحف) من الصور والألوان والإيقاعات المفضلة لديه. فهذه الأشياء هي وسائل التعبير الأولي بناء (أطلس) مالارميه، فقدم (متحفاً) للخيال المالارمي، صنّف فيه كل أنواع النبات والحيوان والنساء، في عالم (ظواهري) محسوس، يحتوي الأصوات المحبوبة، والأشياء المعشوقة لدى مالارميه. وقد انتهى إلى أن بلوغ الخاصتين الأهم في العمل الأدبي العظيم هما: التجانس، والبساطة، حيث لا حشو، ولا إسفاف أو تناقض. وأن ما يهم الناقد من النص هو المنطق الحسي الذي يغذي نداء النص لنا.‏

إن تصنيف عناصر (المعنى) على أساس مقولاتي يتطلب أن تضع كل مجموعة من العناصر في سلسلة (المقولة) التي تنتمي إليها. ولكن هذا التصنيف الذي يقوم على أساس (الائتلاف)، ينبغي أن يترافق مع تصنيف آخر يقوم على أساس (الاختلاف)، ذلك أن (التقاء) العناصر مع بعضها بعضاً ذو دلالة، كما أن (تباينها) عن بعضها بعضاً ذو دلالة أيضاً. ومن هنا وجوب البحث عن (المؤتلف) و(المختلف) في عناصر (المعنى). قبل تصنيف المعنى ووصفه.‏
وقد وجد ريشار لدى بروست ترسيمة (الزهرة)، فحدّدها بأنها (زهرة الغريب)، منطلقاً عن وجوب تحليل الزهرة كمركب أولي (فهي نوع من الأحمر)، وكمركب حراري (فهي درجة من الالتهاب)، وكمركب حميمي (فهي زهرة حانية بذاتها، وهي زهرة متفتحة، منغلقة). وهكذا تتشكل (الترسيمة) الحسية. وعلى هذا المستوى العملي يمكن تصنيف ودراسة كافة (الترسيمات) و(الموضوعات).‏
وهكذا يفكك (النقد الموضوعاتي) العمل الأدبي، بحثاً عن (معناه)، ثم يعيد تركيبه، وفق (مشروع) أو‏(هدف) وجودي، يرتبط، ليس بوعي الكاتب، وإنما بوعي النص المنقود.‏
وهكذا يبدو إسهام ريشار كبيراً في (النقد الموضوعاتي) حتى ليعد-بحق- مؤسسه. وقد أغناه بمقولات ومفاهيم زادته وضوحاً، من مثل: الكثافة، والبنية، والدال والمدلول، والعمق، والعلاقة، والحلولية، والخيال، والحسية، والتجانس... الخ. في ثنائيات ضدية مستقاة من ألسنية سوسير.‏
فمقولة (الكثافة) عند بروست مرتبطة (باللاكثافة). وكلتاهما مرتبط بسجل (المادة). ومقولة (الانطلاق) مرتبطة بمقولة (الانفتاح). وكلتاهما مرتبط بالسجل (المكاني). ومقولة (التعددية)، و(الاستمرارية) مرتبط (بالانقطاعية)... الخ. وهذه (المقولات) هي (الموضوعات) الموظفة في هندسة المشهد. و(القراءة الموضوعاتية) هي التي تظهر (فيض المعنى) الصادر عن محتوى العمل الأدبي، وذلك من خلال مبدأ (التمفصل) المستمر، حيث يتفكك المعنى باتجاه معنى آخر يتفكك بدوره باتجاه كل المعاني الأخرى.‏
كما تُعنى (القراءة الموضوعاتية)، عند ريشار، (بالبنى) الخاصة التي تمثل الحضور الشعري إزاء الأشياء. ومن هنا يصبح (النقد الموضوعاتي) بحثاً عن (البنيات) من أجل التعرّف على (المعنى) الذي يوحد (هيكل) المشهد الأدبي. وهذا (المعنى) هو (الرؤيا) الكلية الواحدة التي يتوصل إليها الناقد بعد تفكيكه للعمل الأدبي إلى (وحدات) صغيرة. و(موضوعات). و(ترسيمات)...‏

بيد أن السمة المميزة (للبنية) في النقد (الموضوعاتي) هي أنها (بنية شبكية) أو (بنية إشعاعية)، حيث يحيل كل عنصر فيها إلى كلّ العناصر الأخرى.‏
وأما (الدّال) في النقد (الموضوعاتي) فهو (الشكل)، و(المدلول) هو(المعنى). ولكن القراءة (الموضوعاتية) تتجاوز هذا التصنيف فتجعل المدلول (=المعنى) دالاً على مستوى آخر. ذلك أن (النقد الموضوعاتي) هو نقد للمدلول، أي أنه يسبر السجلات الأساسية، حيث ينتشر المعنى، ويصنّف كلاً منها في (خانة)، ثم يعود فيجمع هذه (الخانات) في وحدة (معنى). وبهذا تجعل (القراءة الموضوعاتية) المدلول دالاً. ومن هنا ابتداع ريشار لمصطلح (مضمون الشكل).‏

ولما كان (الموضوع) وحدة من وحدات (المعنى)، فإن كل (موضوع) يشتمل على مجموعة من (الظهورات)، وكل ظهور يُعدّ لباساً للمعنى، وكل ظهور للمعنى هو صدى لظهور آخر للمعنى ذاته. واكتساب العنصر المدروس هويته يتم من خلال انتمائه إلى النسق الذي يتشكل فيه. وهو يكتسب القدرة على التكوكب حول العناصر الأخرى التي تنتمي إلى نفس النسق.‏
ويميز ريشار بين نوعين من المعنى: (المعنى الظاهر)، و(المعنى الخفي). ومهمة النقد هي الكشف عن المعنى (الخفي) في النص الأدبي. ذلك أن المعنى موجود. وعلى الناقد إيقاظه من سباته العميق. والكلام الحقيقي هو ما لا يقال في الكلام. وقراءة الشعر الحديث يجب أن تتجاوز ما في السطور إلى ما خلف السطور. ونحن نجد أمثال هذه (المعاني) المستترة في النصوص الرمزية والغامضة. ونجد معها أزواجاً من المتضادات المحسوسة: كالسطحي والعميق، والمغلق والمنفتح، والقريب والبعيد، والموجود وغير الموجود... الخ.‏
ومع توق الشعر إلى إظهار (المعنى)، فإنه يرغب -أيضاً- في (اللامعنى). هكذا يبرز (العدم الخصب) عند سان جون بيرس، و(البرق المتصل) عند رينيه شار، و(الظل المضيء عند بول إيلوار،‏و(النار الخلاقة) عند إيف بونغوا، و(الحدّ اللامحدود) عند جاكوتيه.‏
وريشار، في نقده (الموضوعاتي) لا يبحث عن المعنى لذاته، بل لما يكمن وراءه. إنه يبحث عن (أصل) المعنى، ومصدره، وغايته، وهدفه. وفي ذلك يقول: ((حاولت في دراستي لهؤلاء الشعراء أن أعثر على (القصد) الأساسي، أو (المشروع) الذي يسيطر على مغامراتهم، وأن أصف هذا (المشروع) )).‏
و(النص) هو الحقيقة المطلقة في (النقد الموضوعاتي). ومن خلال النص تنكشف حقيقة المبدع، وإلا ((فأين يمكن أن يوجد الكاتب إن لم يكن في جملة ما كتبه؟)) وكذلك الناقد فإنه ينطلق من النص، ويعود إليه، ويحلّ فيه، من أجل أن يبنيه، ويعيد بناءه، حتى يستقر على النحو الذي يرضيه.‏
و(القراءة الموضوعاتية) هي قراءة (حلولية). لأن (النقد الموضوعاتي) هو بالأصل (نقد حلولي)، ينفي الإحالة إلى أي مصدر خارجي اجتماعي أو تاريخي، كما ينفي الإحالة إلى الكاتب الذي يفيض عنه العمل الأدبي. فالكاتب موجود خارج العمل المنقود. وهذا يعني قدرة العمل على أن يخلق خالقه، أكثر مما يخلقه خالقه.‏
وأما (مفهوم الحسية) فهو أحد المفاهيم القاعدية في (النقد الموضوعاتي). ويتجلّى في مسح الحقول الحسية المعينة، من أجل تحديد الخيارات الشخصية الفاعلة فيها.‏
ويتحدّد (مفهوم الحسية) عند ريشار في البحث عن اللحظة الأولية في عملية الخلق الأدبي عند الأديب، حيث يحتك، بدءاً، بالأشياء. وفي الكشف عن تمفصل العناصر الأولية التي يستمدها الشاعر من حسه وخياله. وإن نقطة ولادة العمل الأدبي إنما تعني تحليل هذه العناصر الحسية الأولية لهذا العمل، كمرحلة أولى. ثم تحديد الكيفية التي تلتقي بها هذه العناصر كمرحلة تالية.‏
وقد انتهى ريشار إلى أن بعض (الموضوعات) تعاد نفسها في العمل الإبداعي. وهذا ما يوصل إلى مفهوم (الاطراد)، لأن هذه (الموضوعات) تقوم بمهمة تنسيق الحياة الخفية في العمل الإبداعي. وهذا ما يقود إلى (الوظيفة النوعية) للموضوع.‏
والواقع أن (معاودة) موضوعات ما، من قبل أديب ما، في أعمال أدبية متعددة، إنما هي (مقياس) لأعماله، و(مفتاح) لتنظيمها، و(دليل) على (هوس) الأديب بها، (نظراً لاطرادها) في أدبه، وتتابعها فيه.‏
ولكن الإمساك بهذه (المعاودة) و(الاطراد) من قبل الباحث يحتاج إلى حصر الموضوعات الجزئية، والكلمات، وبالتالي إلى عملية إحصائية. ومن هنا ينبغي على الباحث أن يبني معجماً للتواتر اللفظي في العمل الأدبي، ويظل دقيقاً وصابراً في قراءة النص، فالدقة والصبر هما اللذان يقودان إلى القوانين الداخلية للرؤية والخيال. ومن هنا فإن ريشار يتناول مفهوم (الاطراد) بتحفظ، ودون أن يجعله المعيار الوحيد، ذلك أن (الغزارة) ليست معياراً نهائياً لتحديد الموضوعات المهيمنة في العمل الأدبي، فمن التكرار ما قد يكون بلا قيمة دالة. والمطلوب هو البحث عن (نقاط التقاطع)، كنقاط حساسة، كما في (صورة العري) عند مالارميه، فهي تسيطر على الحقل.‏
وينتهي ريشار إلى أن قيمة أي موضوع إنما تتحدّد من خلال إلحاحه وقدرته على التمفصل، وأن معنى أي موضوع إنما ينتج عن علاقته بالآخر، ضمن (الكون التخييلي)، وأن (الموضوعات) تميل إلى الانتظام في (مجموعات) مرنة عندما يهيمن عليها قانون (التشاكل)، و(البحث عن أفضل توازن ممكن).‏
ومن (الموضوع) يميز ريشار عنصراً أكثر خصوصية ومحسوسية هو (الترسيمة) Motif التي تتكرر، وترتبط بطريقة مميزة. وقد اكتشف ريشار (ترسيمات) بروست، فوجدها في: الزهر، والسمك، والمصباح، والناقوس، والخمر.... الخ. وهذه (الترسيمات) التي تدل على اختيارات الكاتب، معروضة في العمل الأدبي، بشكل غير منظم. ولكنها تتعلق (بالمعنى). و(تحليل الموضوع) ووصفه إنما يعني تعيين (الترسيمات) المتنوعة في داخله. وهذا يعني تحديد هذه (الترسيمات) من خلال ائتلافها واختلافها. وتصنيف (الموضوع) في (ترسيمات) يعني أن (الموضوع) يتطور حسب نسق هذه (الترسيمات) التي تلتقي داخل العمل الأدبي. وهذا ما يجعل (القراءة الموضوعاتية) قراءة أنساق من (الترسيمات) التي تلتقي على أساس المنطق المقولاتي.‏

وفي دراسته لبروست يتساءل ريشار: كيف يتشكل (المكان) عند بروست؟ وما أهميته؟ وما هي المحاور التي ينتظم بموجبها؟ وكيف يتجسد عبر تعبيره؟.‏
وفي مقولة (الزمان) يتساءل-أيضاً- ما الصيغ الخاصة بالزمن البروستي؟ وما أهميته؟ وما هي الأزمنة المحببة لديه؟ وما هي الأزمنة المكروهة عنده؟ وهل لديه أزمنة حيادية؟‏
وفي ما يخص (الأشياء) التي تناولها بروست: ما هي الأشياء التي تتركز عليها رغبته؟ وما صفات هذه الأشياء؟‏
وفي ما يخص (الأجساد): أي نمط من الأجساد يتشوق إليه بروست؟ وما هو مقام الجسد في أعماله؟‏
وفي (المجال الحسي) كيف تتوزع الألوان؟ والأشكال؟ والأصوات؟ والحركات؟... الخ.‏
وهكذا يصل الباحث أخيراً إلى (النوعية الشخصية للحس)، وهي الجوهر النوعي لإحساس آخر لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الفن.‏
وأما (مفهوم التجانس) فيعني به ريشار وصف العالم الخاص بالعمل الأدبي وتأويله، وفي تجانسه ومرماه. وتجانسه يتجلّى في رسم مجموعة العناصر المعروضة للدراسة كنظام متسق ذي خصوصية. وكذلك عندما نلحظ ميلاً إلى تكرار بعض المواقف، وتأكيداً على بعض البنى التي تشكل القاعدة الأساسية للنص الأدبي.‏
وأحياناً يختار ريشار مصطلح (القرابة السرية)، و(المعمارية غير المرئية)، و(القوانين الداخلية) كبديل عن (مفهوم التجانس) الذي يجعله دليلاً على عظمة العمل الأدبي.‏
ومهمة النقد كشف هذا (التجانس)، وإبرازه، عن طريق (القراءة الموضوعاتية) التي تلتقط (أصداء العلاقات)، والتي -ربما- أعادت تنظيم الأشياء.‏

***
(3) شارل مورون (1899-1966):‏

يعتمد شارل مورون (1899- 1966)، في نقده، منهج التحليل النفسي الفرويدي، مضافاً إلى الألسنية البنيوية. ويقوم منهجه النقدي على مقاربة تسمح بتنظيم النص الأدبي حول بنيوية (رمزية) لأزمة ما، من أجل تقصي ملامح الأسطورة الشخصية للكاتب، وكيفية ظهورها عبر الصور والاستعارات الملحة عنده وبهذا يصبح النص تعبيراً مباشراً عن شخصية الكاتب وتكوينه النفسي.‏

ويعتقد مورون أن الكاتب يعبّر، من خلال رموزه، عن (فكرة) ثابتة أو (عقدة) راسخة)، قد تكون أحياناً واقعية، وأحياناً خيالية. يتناولها الناقد، في بداية تحليله، (كفرضية) قابلة للتطوير، في سياق العمل. ثم يقوم بتحليل تماثلي للنصوص، وفق أسلوب التقدم والارتداد، آخذاً بعين الاعتبار جملة من المسلمات، من أهمها: اللاشعور، وأهمية الطفولة ودورها في تشكيل اتجاهات الشخص البالغ، وآثار بعض الوقائع الراسخة في اللاوعي والذاكرة، ووجود النزوعات المتسلطة.‏

Des métaphores obsédantes
  (1962) au mythe personnel
وعلى ضوء هذه المفاهيم النقدية، تناول مورون نتاج مجموعة من الأدباء أمثال: راسين، وبودلير، وفاليري، وبروست، وكوكتو... الخ. وطبّق عليه تقنيات منهجه النفسي التي تدور حول (المونولوج) الباطني والنزعة (المتسلطة) للأحلام والأفكار ذات الإيقاع الهذياني ففي كتابه: من الاستعارات الملحة إلى الأسطورة الشخصية (1962)، قام مورون بتنضيد النصوص المختلفة للكاتب الواحد، من أجل اكتشاف شبكة (الاستعارات المتماثلة)، و(الصور الميثولوجية المتسلطة)، و(المواقف الدرامية المتواترة)، متقصياً، في النصوص، الوقائع والعلاقات المستترة، وشخصية الكاتب اللاشعورية، والشهادات، واليوميات، والملاحظات، والتداعيات اللاإرادية، تحت البنى الإرادية المتجسدة في النص.‏

وبعد تنضيد النصوص وفق الاستعارات والصور الملحّة، تأتي الخطوة التالية في هذا المنهج النقدي، حيث يتمّ الكشف عن (الأسطورة الشخصية) للكاتب، والتي هي عبارة عن استيهام دائم، يضغط على الكاتب ويظهر من خلال نصوصه الإبداعية.‏

وأما الخطوة الثالثة فهي التفسير النفسي للأسطورة، باعتباره مسرحة لهذيان مورون النقدي بين ثلاثة محاور: الوسط الاجتماعي، وشخصية المبدع، والنتاج الأدبي.‏
ولدى تطبيق مورون منهجه النقدي هذا على (أزهار الشر) لبودلير، بدأ بتنضيد عدة قصائد نثرية، ثم قرّبها من حلم لبودلير، أدرجه الشاعر في رسالة كتبها إلى أحد أصدقائه. واستخلص أن ثمة شبكة ترابطية ومسلسلة من الاستعارات الملحة تدور حول عبء شعري يربض بوزنه الشبقي على المرأة في قصيدته (دور وتيه الحسناء). ومخلوق خيالي لدن كالمطاط، يثير الشفقة في قصيدته (لكل منا وهمه). وقد انتهى مورون إلى أن الشاعر بودلير عاش تمزقاً حاداً بين الحلم والواقع، وأن هنالك صدعاً نفسياً لديه أشارت عقاربه إلى ساعة الزمن.‏
***
(4)جان بول فيبر:‏

ناقد فرنسي معاصر عني بالنقد (الجذري). ووضع في هذا المجال عدداً من الكتب، من أهمها: بسيكولوجيا الفن (1958)، وتكوين الأثر الشعري (1961)، وستاندال: البنيات الجذرية لآثاره ومصيره (1969).‏
و(الجذر) عند فيبر هو (حادث) أو (موقف) يمكن أن يظهر بصورة شعورية أو لا شعورية في نص ما، بصورة واضحة أو رمزية. فهو يقارب (العقدة) في التحليل النفسي، لأنه يظل (غير مفهوم) من الكاتب نفسه، باعتباره يعود إلى عهد الطفولة.‏
والجذور -عنده- نوعان: جذور شخصية، وجذور عامة، فالجذور الشخصية غير قابلة للاختزال أو‏التبسيط، وهي بعيدة عن (العقد) النفسية. والفرق بين الجذور الشخصية والجذور العامة هو أن جميع الأطفال يمرون مثلاً، (بعقدة أوديب). ولكن من النادر أن يتوقفوا عند هذه المرحلة فلا يتجاوزونها. وهذا الوقوف يدعى في علم النفس المرضي (التثبيت).‏
و(الجذر) هو(افتراض) في البداية، ثم يقوم (التحليل التماثلي) للنصوص بتأييده. ومن أجل العثور على هذا (الافتراض) ينبغي اللجوء إلى ذكريات الطفولة إذا ما ترك الكاتب وثائق سيرية. ثم تأييد هذا (الفرض) بنصوص أدبية من نتاج الشاعر. أما إذا لم يترك الكاتب وثائق عن طفولته، فيمكن عندها اللجوء إلى (التحليل الارتدادي). وذلك بالانطلاق من الأثر الأدبي، والارتداد إلى الذكرى...‏

ولدى تطبيق فيبر منهجه الجذري على النصوص الشعرية وجد أن الشاعر دوفيني قد توقف عند موضوع (الساعة). وهذا جذر شخصي جعله الشاعر موضوعه الملح. وأن الشاعر ملارميه قد توقف عند (الطير المحتضر، أو الطير الذي وقع في الفخ). وهذه كلها جذور شخصية، بخلاف (الجذور العامة) التي هي مشتركة بين أشخاص لا حصر لهم.‏
وقد يعبّر الجذر عن نفسه بشكل (رمزي)، ويطلق فيبر على هذا التعبير اسم (التنغيم الموسيقي) في الجذور الشخصية، و(الخاصية الغالبة) في الجذور العامة. وهكذا يعبّر الأثر الأدبي. من خلال عدد لا حصر له من الرموز. عن فكرة ثابتة، أو (جذر) وحيد. وهذا الجذر، يثبت أصوله في حادث منسي في طفولة الكاتب.‏
وبعد أن يفترض الناقد (الفكرة المتسلطة)، يقوم بالتأكيد على التشابه الذي يمكن أن يوجد بين هذه الفكرة الثابتة وبين كل نص يجري فحصه. وقد قام فيبر بهذا، فقارن حادثة سقوط بول فاليري، عندما كان طفلاً، في حوض ماء. فوجد في قصائد فاليري تلميحات إلى هذا الحادث: (الاحتضار العذب، المقبرة البحرية... الخ). وأكد بعشرات التفاصيل هذه الفكرة المتسلطة، وربطها بالحادث الذي وقع لفاليري في طفولته.‏

***
(5) جورج بوليه (1902-1991):

Études sur le temps humain
كما عني بالنقد الموضوعاتي (الجذري) الناقد البلجيكي الأصل جورج بوليه J. poulet المولود عام 1902، والأستاذ في جامعات أدنبرة، وبالتيمور (1952)، وزيوريخ (1956)، ونيس (1968). وقد نشر كتباً اعتبرت من أسس (النقد الجديد)، منها: دراسات في الزمن الإنساني (1950)، والمسافة الباطنية (1952)، وتحولات الدائرة (1961)، والفضاء البروستي (1962)، وثلاث مقالات في الأسطورة الرومانسية (1966)، والشعر المتفجر (1980).‏

في مقاله (ظاهراتية القراءة) 1969 يرى بوليه أن وعي القارئ متى انغمس في النتاج الأدبي تحرر من قيود الواقع، ومن إحساسه العادي، وأصبح يمتلك أفكار غيره، وكأنما هي أفكاره. وأن فعل القراءة يعني الاندماج في العمل الأدبي الذي يصبح عقلاً يعي ذاته من خلال القارئ- الفاعل.‏

ويحدّد بوليه انطلاق النقد من الأشكال الأدبية. ويستعين بالتحليل الظاهراتي (للزمان)، و(المكان) من أجل العثور على (التجربة) الأولى للكاتب، أو ما يسميه (كوجيتو) الكاتب. فيتساءل: ما هو الموقف الذي‏ اتخذه الكاتب حيال (الزمان والمكان)؟.‏

ويرى بوليه أن (الأشكال) الأدبية ينبغي ألا تنوب عن الروح التي تبدع هذه الأشكال في العمل الأدبي، وأن على الناقد أن يكتشف النظام العقلي الذي يتمتع به الكاتب، من أجل إدراك (الفعالية) الروحية التي يمكن فهمها إلا إذا وضعنا أنفسنا في مكانها، وفي منظوراتها. فكل ما هو خارج العمل الأدبي لا يهمّ الناقد. وكل بحث يصبح باطنياً من أجل العثور على التجربة الروحية للكاتب.‏

ويشترط بوليه على الناقد أن يندمج، ولو بصورة جزئية، وبالعمل المدروس الذي تعتبر معرفته وفهمه والاندماج فيه الغاية الحقيقة للنقد. مؤكداً بذلك على (الذاتية) التي ينبغي أن تسيطر. فإذا لم ينجز الناقد هذا العمل (الذاتي)، فإنه لن يرى إلا الأوجه الخارجية للأشياء


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق