الثلاثاء، 8 يوليو 2014

فينومينولوجيا الوعي النقدي بقلم : جورج بولي

ترجمـة : سعيـد بوخليـط.


ستيفان مالارميه (1842-1898)
لنتذكر بداية، عمل “مالارميه”  “Igitur”،حيث نعثر وسط قاعة فارغة،على طاولة وضع فوقها كتاب ينتظر قارئا.صورة،تشكل بالنسبة إلي أساس كل عمل أدبي.هكذا،وقبل شروع شخص في تصفح فقراته،لم يكن إلا كائنا ورقيا،يؤكد وجوده كشيء من خلال حضوره الجامد ارتباطا بمكان ما. هناك، إذن بين رفوف الخزانات وعلى واجهات المحلات،ترقد مؤلفات تترقب شخصا ما، ينتشلها من ماديتها وسكونها. هل تنتظر حقا،وتترصد قدوم من سيبعث فيها التحول الكبير الذي نعرفه؟ الأمر،غير متوقع كثيرا. كل ما يمكن تأكيده، أن الكتب قبل مجيء قارئها،تمكث في مكانها،وتحتفظ بوضعيتها الأصلية.لاشك،أنها تجهل المجهود الشاق،لتلك الروح الواقعة تحت أسر رغبة تغييرها.هكذا،يبدو حقا للأسف،أن الكتب غير مدركة لعذابات الانتظار.  ومثل،جميع الأشياء المادية،يتحتم عليها الامتثال إلى حالتها.

مع ذلك،لا أستسيغ كليا،قبول عدم اكتراثها.حينما،أرى كتبا معروضة، فإني أقارنها بالحيوانات التي ألقى بها البائع داخل أقفاص صغيرة ،ويتمنى بشكل واضح جدا أن ينصب اهتمام مشتري عليها.حينذاك،ستكتشف نفسها قد تخلصت من الخزي، الذي لحق بها  لمّا عوملت مثل أشياء عادية. ألا ينطبق الأمرعينه، على الكتب؟ بتقوقعها على ذاتها وهي مهمشة، مهانة، بقيت ملقاة و ممددة، حتى اللحظة التي التفت إليها قارئ ما. هل تعرف،أن الأخير بوسعه منحها صيغة أخرى للوجود؟.أحيانا، نقول عنها قد استضاءت أملا،حيث تبدو كأنها تحثنا بصيغة : هيا اقرؤوني.لا أتردد كثيرا،أمام طلب كهذا.فعلا،الكتب ليست بأشياء مثل باقي الأشياء.

الشعور الذي تلهمني إياه، أعيشه صدفة مع أشياء ثانية ،وبالضبط أواني ونُصْب تمثالية، فلم يتأتى إلى ذهني أبدا أن أطوف حول آلة خياطة أو النظر إلى صحن من تحت،فقط أكتفي بتأمل الواجهة التي سيقدمانها إلي. غير أن النصب تلهمني،رغبة الدوران حولها والأواني بالسعي إلى تقليبها.أتساءل لماذا؟ أليس لأنها توحي بوجود شيء داخلها، يمكنني إدراكه بتقليب النظر نحو زاوية مغايرة؟.فلا يظهر لي،أن وعاء أو نصبا،قد أبرزا كليا محيط جانبهما الداخلي .حتما، يمتلكان داخلا إلى جانب سطحهما الخارجي.

ماهو هذا الداخل؟ حيز، يثير فضولي ويدفعني كي أدور حولهما،كما لو أتوخى العثور على مدخل غرفة سرية .لكن لايوجد منفذ :(فقط الفتحة الموجودة في قمة الوعاء،التي ليست بالأحرى غير فوهة وهمية).الوعاء والنصب،منغلقان ويرغمانني على المكوث خارجا.لا أتملى، غير جانبهما البراني،ويلزمانني بالبقاء عنده.هكذا،يستعصي حقا أن أنسج علاقة معهما،وضع يسبب انزعاجي. لكن،لنترك مؤقتا على الأقل النصب وكذا الأواني،ولا أريد للكتب أن تكون مثلهما.اشتري إناء،وضعه  لديك فوق طاولة أو موقد،ثم بعد فترةمعينة، سيذعن لتلك النظرة التي استأنست به وجعلت منه ضيفا مألوفا في منزلك. بيد أنه في كل الأحوال،سيظل إناء.

على النقيض ،لما تتناول كتابا ستراه يعرض نفسه وهو ينفتح . واقعة، تبدو إلي في غاية الاستثنائية والأهمية. فالكتاب،لا يتشبث أبدا بإطارحدوده الخاصة،ولايستوطنها كما يستوطن قلعة.وهو يسكن ذاته،يلتمس وضعا أفضل بالتواجد خارج هذه الذات،أو يستدرجك كي تنتقل إلى داخله. باختصار،المدهش في حالته،أن الحواجز تتلاشى بينك وبينه،أنت فيه وهو فيك، ثم تنمحي ثنائية خارج أو داخل.

Igitur
ظاهرة  كهذه، نعيشها بين جدران الغرفة الفارغة لمؤَلف”Igitur”.شخص ما،دخل إليها،تناول الكتاب المفتوح الملقى على الطاولة،وشرع في قراءته. النتيجة، عملية  تقويض الأسوار،وانغماس الفكر إلى باطن الشيء،وكذا الاختراق الغريب الذي يكون الأخير مسرحا له. كما قلت،على منوال ما يقع حينما تمتلك طائرا أو كلبا أو هرة صغيرة،بحيث تلاحظ تحولها إلى أصدقاء.أعشق بالكيفية ذاتها كتبي، لأني أتبين معها تلك الكائنات التي باستطاعتها أن تعيد إلي الود الذي أضمره لها.لكن،أهذا كل ما في القضية؟هل التحول الذي أصنعه لكتاب وأنا أقرأه،يقتصر على الارتقاء به نحو مرتبة الكائن الحي؟ لا، إنه سيصل إلى أبعد من هذا التحقق تتجلى  معه ظاهرة جديدة،أجد صعوبات كبيرة في توضيحها.

لكي أنجز الأمر،تلزمني العودة إلى الوضعية التي أنا بصدد فحصها.كتاب هناك،ينتظر وسط غرفة مظلمة.ثم ،هاهو شخص ينفذ إليها.أنا على سبيل المثال،من تصفح الكتاب ثم انكب على قراءته. خلال هذه اللحظة بالضبط،وخارج الشيء المفتوح أمام عيناي،أرى انبثاق كمية كلمات وصور وأفكار،يحتجزها ذهني. أدرك،أن ما أمسك بين أناملي،ليس مجرد شيء أو حتى كائن حي،بل كائن يتمتع بعقل ووعي :وعي آخر،لا يختلف عن ما أفترض حضوره تلقائيا لدى جميع الكائنات الحية التي ألتقيها. لكن،من الذي انفتح إلي في هذه الحالة الخاصة، ومنحني إمكانية الغوص بنظري في جوانيته نفسها،والذهاب إلى حد جعلي-امتياز خارق-أفكر فيما يفكرفيه والإحساس بما يشعر به.

أقول،سياق خارق،نتيجة اضمحلال ما أسميه شيئا.أين الكتاب الذي أمسكه ؟ إنه لازال كذلك. في الآن ذاته لم يعد هنا،لقد انتقل إلى اللا-مكان.هذا الشيء بالمعنى المطلق للمفهوم،المصنوع من الورق مثلما تنتمي أشياء أخرى إلى المعدن أو الخزف،اختفى أو على الأقل كأنه لم يكن أبدا،بقدر ما تتواصل قراءتي للكتاب.لذا ،توقف الأخير عن كونه حقيقة مادية،وأضحى متوالية من العلامات شرعت في التبلورلحسابها.

إلى أين يمضي الوجود الجديد؟ يقينا، يرفض استعادة مصير ذاك الجسم المصنوع من الورق.بالتأكيد أيضا، ليس صوب جهة أخرى تقع في المجال الخارجي، وسيبقى كفضاء وحيد لوجود العلامات : طويتي. كيف نحقق هذا المبتغى؟ بأي إجراء؟ واعتمادا على أي وساطة؟كيف أمكنني، أن أبسط فكري كليا، نحو ماهو مستبعد في المعتاد؟كيف تمكنت، أن أخترق بسهولة كبرى نواة فكر،بقي موصدا أمامي خلال أغلب الوقت؟أجهل الأمر.أعرف فقط،أنه لحظة القراءة،أتبين داخل فكري حشدا من الأفكار،استقرت كما لو أنها في مسكنها.حتما،لازالت دائما عند مرتبة الأشياء : صور ومفاهيم وكلمات،إذن أشياء لفكري.

مع ذلك، ينكشف حقا فارق مهول بين هذه الأشياء الذهنية المحتلة لفكري،ثم  المتواترة أمام بصري،وقد كان الكتاب قبل البدء في قراءته مجرد مثال كأشياء أخرى عديدة. يسكن العالم الخارجي، كالإناء والنّصْب والطاولة :عالم،حيث اعتادوا على العيش فيما بينهم أو كل واحد لذاته،ولم يكونوا أبدا في حاجة كي يتأملهم تفكيري.  

أما،وقد انتقلت إلى العالم الداخلي،فغدت الكلمات والصور والأفكار،تتراقص كأسماك وسط حوض مائي.صارت كيانات ذهنية،يرتهن وجودها بالمنزل الذي سأتدبره لها،إنها متعلقة بوعيي.
(1976) La Conscience critique

يمثل هذا الارتباط في الآن ذاته،  كما قلنا قبل حين،إجحافا وامتيازا.يتمثل جانب الامتياز،في قدرة أشياء خارجية الاستغناء عن كل تدخل للفكر،وتلتمس فقط أن نتركها في سلام،مقررة بمحض إرادتها الانسحاب من القضية. طبعا،حقيقة لاتسري على الأشياء الداخلية وقد أجبرت بالضرورة على تغيير طبيعتها،وتحولت إلى صور وأفكار وكلمات،بمعنى كيانات محض روحية.

إجمالا،لكي تتمكن من التجلي باعتبارها موضوعات ذهنية،يلزمها التخلي عن كل أمل في التنعم بوجود واقعي. هناك، مادة متحسر عليها.فما إن أستبدل بكلمات كتاب،تصوري المباشر للواقع،حتى أستسلم في عجز تام إلى قوة الكذب الكلية،وأقول وداعا لما هو عليه مختلقا اعتقادا يتجه نحو ماليس عليه،أحيط نفسي بالاستيهامات والأوهام وأجدني فريسة للغة. أمام تملك كهذا،لاأتحسس وسيلة للإفلات منه، تلفني اللغة بخيالها كما يغطي الماء مملكة يطويها البحر داخل جوفه. لايوجد أي قسم من الحقيقية، في مأمن عن هذا الإخفاء العام.

إن مايميز الأدب، أي اللغة وقد ظفرت بالحرية واستسلمت دون كابح إلى أقصى ممارسة لقوتها، يكمن في عدم احترام أي مضمون موضوعي أو معطى واقعي وكذا واقعة مبرهن عليها. لن تظل مع هذا الأدب، ولا قطعة صغيرة في شكل يابسة، وسط عالم الخيال المائع. من جهة ثانية،ينطوي تحول الحقيقة إلى معادل تخيلته اللغة، على امتيازات أكيدة.بقدر انسياب العالم المتخيل ،الذي يعتبر أكثر مرونة من الحقيقة الموضوعية،سيرتضي لنفسه جميع الاستعمالات، مستسلما دون مقاومة كبرى لإغراءات الفكر.أيضا،لايبدو من تعارض جذري بين العالم الباطني الذي شكلته اللغة والأنا التي تفكر فيه ،وهذا أكثر المعطيات تثمينا بين مختلف هاته الامتيازات.

بدون شك،ما أستكشفه عبر الكلمات، أَشْكالا غير مفتقدة للمظهر الموضوعي،لكنها لا تظهر لي من طبيعة مغايرة عن فكري، الذي يتأملها. هي أشياء،لكنها ذهنية.إذن، تم تذويتها. عموما،أضحى كل شيء لدي ذهنيا بسبب تدخل اللغة،وتقلص كثيرا التعارض بين الذات وموضوعاتها.لذا،فأفضل فائدة للأدب،إقناعه إياي بأن أجدني في ظله،قد تخلصت من الإحساس بالتعارض الذي أستشعره دوما بشكل اعتيادي بين وعيي وموضوعاته. قطعا،تحول مدهش تحدثه عندي القراءة.ليس فقط،كونها تؤدي إلى اضمحلال مختلف ما يحيط بي من الأشياء الفيزيائية،بما فيها الكتاب الذي أنا بصدد قراءته.لكنها تستبدل هذه الموضوعية الخارجية،بمضاعفة الأشياء الذهنية وفق صلة وثيقة بوعيي.

رغم ذلك، فالألفة التي أحيا داخلها في الوقت الحاضرمع أشيائي،ستخلق لي إشكالات جديدة. أكثرها غرابة،مايلي : أنا شخص،صار موضوعا لأفكاره الخاصة، التي تعتبر بمثابة تأملات شخص غيري،استخلصتها من كتاب أقرؤه.مصدرها طرف آخر،مع ذلك فأنا الآن ذاتها. وضعية،أكثر إثارة للدهشة، مما لاحظته سابقا.إني أفكر، من خلال الآخر.بالتأكيد،لن أحس بالانذهال،إذا اقتنعت بانتماء هذا الفكر لشخص آخر.لكن،لما أفكر فيه كأنه لي، تتموضع حينئذ إحدى الظواهر الأكثر غرابة.

باستمرار،توجد أنا تفكر،أكتشفها في خضم أفكار تقاطرت  نحوي من جهة أخرى،لكني أتكفل بها لحظة تفكري فيها. هكذا، ينبغي الإنصات إلى قولة “ديدرو”Diderot  ((إن أفكاري بمثابة عاهراتي)).يقصد، تمثلها من طرف الجميع دون أن تضيع مع ذلك،قدرتها على تفكير “ديدرو” فيها  ثانية باعتبارها أفكاره الخاصة. بمفهوم ثان،تتوقف الأفكار عن الانتماء إلى الآخرين،كي تصبح في نهاية المطاف ملكا لمن يفكر فيها. ثم بين طيات قراءتي الآنية،ستأخذ وجها مخالفا تماما. ونتيجة اكتساحي الغريب،من قبل أفكار أنتجها آخر،فإني ذات أمكنها التفكير بفكر،يظل غريباعليها . بالتالي، أنا ذات لتأملات أخرى غير اعتقاداتي،ويتصرف وعيي كما لو أنه وعي فرد آخر غيري.

هذا يقتضي،أني استوعبت المآل. بمعنى من المعاني، يلزمني الإقرارحقا، بعدم انتماء أي فكرة إلي، بل ولا شخص ثان بعينه.تنتقل الأفكار من عقل لآخر،مثلما تتداول الأيادي قطع النقود.لذا ،لايوجد خطأ،أكثر من الرغبة في تحديد وعي بناء على الأفكار التي يبعثها أو يتبناها.لكن ،مهما استمرت قوية جدا، صلة الأفكار بالشخص الأول الذي استقيتها منه،ثم بقاءها العابرداخل فكري الذي يتلقاها،سيتضح بقدر استضافتي لها، أني ذات لهذه الأفكار،والمبدأ الذاتي لما تصلح له لحظة حمولاتها.

مع ذلك،يستحيل بأي وجه تصور المبدأ الذاتي نفسه حمولة ،مادام هو باستمرارغير مانتكلم عنه ونحيل إليه أونفكر فيه. إن  من يكون بصدد التحدث عنه،هو الذي يتأمله ويعينه.باختصار،ليس قط “هو” لكن “أنا”المفكرة بضمير المتكلم،ويقصد موضوعها أيا من أفكاري.والحال كذلك، ماذا يقع عندما أقرأ كتابا؟هل أنا ذات لسلسلة من المحمولات ليست لي؟هذا مستحيل،ربما متناقضة العبارات.

أشعر جيدا،ما إن أفكر في شيء،حتى يصير من خلال معنى يتعذر تأطيره،واقعا يخصني وجزءا من عالمي الذهني،مما يتيح أمامي الخوض في فكر ينتمي صراحة إلى عالم ذهني آخر يفكر من خلالي، كما لو أني لا أفكر فيه.سياق غير مستساغ أصلا،لكنه سينجلي لدي  بوضوح عندما أدرك أن كل فكر ينبغي أن تكون له ذات تتأمله.فهذا الفكرالغريب المتواجد داخلي،عليه أيضا أن يؤسس داخل ذاتي،ذاتا أجنبية عني.

إذن كل شيء، يتم كما لو القراءة،شكلت الفعل الذي بواسطته نجح فكر في منحي ذاتا، لن تكون ذاتي.عندما أقرأ،أتلفظ ذهنيا ضميرا للمتكلم “أنا”، مع ذلك ف”الأنا” التي أنطقها، لا تشير إلى شخصي بقضه وقضيضه. بنية قائمة ،حتى إذا استعمل الكاتب ضمير الغائب من أجل تقديم بطل روايته(جوليان سورل) ، بل وانعدم هذا البطل ولم تبرز غير قناعات الكاتب : لأنه ما إن يتجلى شيء،يتحتم عرضه باعتباره فكرا،حينذاك ينبغي وجود شخص ما،يفكر وأتماثل معه مؤقتا،يقول رامبوRimbaud  ((الأنا، هي آخر)). 

الأنا آخر،أضحى خاصا بي،سيستمر في أن يقوم مقامي، قدر ديمومة القراءة،التي تعني بالضبط ما يلي : طريقة لإخلاء المكان،ليس فقط لحساب حشد من الكلمات والصور والأفكار الخارجية،ولكن مبدأ الأجنبي نفسه مصدر انبعاثها واحتضانها،ظاهرة يصعب حتما تفسيرها.

أريد القول،هي قابلة للتصديق ،لكن ما إن أسلم بشرعيتها،حتى يتضح لي بكيفية مختلفة،ما يحتاج إلى تعليل أعمق. بالتالي،كيف أفسر إن لم يكن بيد الآخر الجاثمة على الجوهر الذاتي لوجودي،طبيعة السهولة المدهشة التي بواسطتها لا أفهم فقط ما أقرأه، لكني أيضا أحس به.

عندما أقرأ كما ينبغي ، دون تحفظ ذهني، أو رغبة دائمة في  صيانة استقلال رأيي،فأمارس الانخراط المطلق الذي تقتضيه كل قراءة،يصبح فهمي حدسيا وأتوحد فورا بالشعور الذي تلهمني إياه.بصيغة أخرى،الفهم المقصود هنا،ليس حركة تذهب من المجهول إلى المعلوم،والغريب فالمألوف ثم البراني والجواني،لكنها بالأحرى ظاهرة مماثلة لذكرى،ترتقي بواسطتها مباشرة الموضوعات الذهنية من عمق الوعي المظلم إلى واضحة النهار.من جهة-ولايشكل هذا تناقضا-تنطوي القراءة على ما يشبه إدراكي لذاتي  الثابت تقريبا، فعل أتناول مباشرة من خلاله،ما أفكر فيه باعتباره معطى متأملا من قبل ذات : (هي في حالة القراءة،ليس أنا،لكن مع باقي الحالات الأخرى هي أنا).

بيد أنه رغم استثنائية،الاستلاب الذي تخضعني له القراءة، لاتكبح أبدا داخلي مجرى نشاط الذات المركزي،بحيث يظل دائما نفسه مندرجا في إطار استمرارية الحياة الروحية،التي ليست حتما بلا قطائع ولا تحولات،يستحيل حتما أن تقوم لها قائمة دون الحضور الفعال لذات. 

إذن ،تعتبر القراءة الدؤوبة، الفعل الذي يغير المبدأ الذاتي الذي أمنحه اسم ضمير المتكلم”أنا”،بكيفية لاأملك معه الحق بالمعنى الصارم للسياق،في اعتباره مثل ضمير المتكلم”أنا”.لقد،انتسبت إلى شخص آخر،يفكر ويحس ويكابد ويشتغل داخل الأنا.ظاهرة،تتبلور حقا في صبغتها البديهية بل والأكثر سذاجة بين طيات حالة الارتهان،التي تلقيني إليها بعض القراءات الفاتنة. أقول،عن الأخيرة تأسرني ،لكن من المهم ملاحظة أن الإمساك بالذات من طرف الآخر،يملأ حيزا ليس فقط على مستوى الفكر الموضوعي بحيث تنكشف الصور والأحاسيس و الأفكار التي استلهمتها من القراءة.لكن أيضا،عند مستوى أكثر تساميا،هو الذاتية نفسها.فحينما،تستغرقني القراءة،تستأثربي ذات ثانية وتتجسد لدي.ربما،أنزوي في زاوية من نفسي،كي أعاين بصمت هذا التملك، وربما أستخلص منه بعض العزاء أو على النقيض نوعا من الجزع.

كيفما كان الأمر،هناك آخر غيري يحتل المشهد، مما يجبرني حتما على مساءلة نفسي على النحو التالي : ((من هذا المغتصب الذي يشغل الصف الأول؟ثم ماهية الفكر الذي يصبه في وعيي،والذي حينما أقول عبره “أنا” فهي “الأنا” التي أتلفظ؟)).
بخصوص تساؤل كهذا،ينبثق للتو جواب وربما بشكل سهل جدا.مفاده،أن ضمير المتكلم “أنا” التي تفكر داخلي،عندما أقرأ كتابا هي “أنا” صاحب الكتاب.

لما أقرأ بودليرBaudelaire أو راسين Racine ،ففي الواقع هما من يفكران ويقرآن داخلي.أليس كل عمل بالنسبة لمؤلفه وسيلة لحفظ أفكاره وأحاسيسه وكيفيات حلمه وعيشه؟ طموحه،أن ينقد ذاته من الموت.تأويل كهذا لظاهرة القراءة،ليس خاطئا بل ينزع نحو إثبات ما نسميه عادة بالتفسير البيوغرافي للعمل.

في الواقع،كل عمل أدبي مشبع بفكر صاحبه،وحين الاطلاع عليه يبعث لدينا نفس ما فكر فيه أو اختبره.فهم مضامينه، يعني إفساح المجال للكاتب الذي ألفه كي يتبدى إلينا ومن خلالنا،فليست السيرة هي التي تفسر العمل، لكن العمل من يخول لنا فهم السيرة الذاتية.
بيد أن هذا التأويل،غير سليم في قسم منه. حقا، يقوم تماثل بين مؤلفات كاتب وتجارب حياته، لكن الأولى قد تكون ترجمة غير وفية للثانية.التماثل، يصبح دالا أكثر بين مختلف نصوص نفس المؤلف.ألا يشبه مجموع ما تقدمه،جراء تكدس الأقوال والأحلام والتأملات التي ستتجلى عبر انسيابها،ذاك التراكم الآخر المتعلق بالذاكرة وكل وقائع الحياة الذهنية.

غير أن كل عمل أقرأه،يرفض الاختلاط بهذه الكلية المضطربة،ويسكنه طموح التواجد مستقلا بحياته الخاصة.الذات،التي أتلمسها بقراءته ليست للمؤلف،سواء في إطار المجموع المضطرب لتجاربه الخارجية و الجوانية،أو الكل المتجانس جدا لكتاباته.
الذات،التي تشرف على العمل،ستكون بالضرورة بين طياته.حتما،من أجل استيعاب الأخير، يجدر الاهتمام بكل روافده، وتطرح لدي أساسية المعطيات البيوغرافية والبيبليوغرافية والنصية ثم النقدية عامة. مع ذلك، لا تتطابق مع المعرفة المحايثة  لهذا العمل. من جهة،تتجاوزه.ومن جهة ثانية،لا تدركه.

كيفما هو حجم المعلومات التي أمتلكها عن بودلير أو راسين،ودرجة الحميمية التي أبلغها مع عبقريتهما،فإني أشعر بعدم كفاية حمولة كهاته كي أحيط بنص نوعي مثل “فيدر”Phédre أو “لوبالكون”LeBalconفي جوهره الخاص واكتماله النظري، وكذا المبدأ الذاتي الذي حكم متوالياته،مما جعلني أغوص بين فقراته.

يهمني أساسا،خلال هذه اللحظة أن أحيا نوعا من العلاقة الهوياتية، تربطني كليا بالنص،ولن يكون الوضع على غير هذه الشاكلة.هكذا ،لايمكن لأي  شيء خارج النص،أن يحظى بنفس تلك الامتيازات الهائلة.

النص هنا،يطويني رافضا أن يلقي بي خارجه وأبعد من صاحبه، يتوخى باستمرار أن يبقي انتباهي مسلطا عليه،يرسم داخلي الحدود ذاتها التي ستنحصر بين أبعادها هذه الأنا،ويفرض علي أشياء وتفكيرا معينا وتأملا شاردا،ثم أرسى لدي شبكة مقولات مترابطة ،يستحيل خارجها مؤقتا أن يقوم حيز داخل فكري يتسع لأفكار أخرى وتأملات شاردة أو أقوال.
أخيرا،لن يكتفي هذا النص بسجن الذات وسط نطاق معين من الحقائق الذهنية،بل يستحوذ عليها مهيمنا ،وينتزع ملكيتها جاعلا منها ضميرا للمتكلم،يوجه ويدون من البداية إلى النهاية قراءتي لاستطراداته فقط .

سيمثل بالنسبة إلي ظرفيا،الجوهر الوحيد الذي يملأ هذه الذات ،بل إنه الذات نفسها،الذات-الموضوع،والوعي المستمر لما يبلوره النص.هي وضعية،ملتصقة بكل عمل أجعله يعيش وينبجس عندما أضع وعيي رهن إشارته.لذا،لا أمنحه فقط الحياة ولكن أكثر منها إحساسه بالوجود.

هكذا تلزمني القراءة بعدم التردد، قصد الإقرار أن عملا أدبيا،بقدر ما يحدث داخله بواسطة  القراءة بعثا للحياة،يغدو من ناحية ثانية رهينة لقارئ يلغي الحياة الخاصة بهذا العمل،أي سبيله كي يكون إنسانيا بمعنى فكرا واعيا بذاته،يتشكل كذات لموضوعاته.
يعيش العمل داخلي،يتأمل ذاته في إطار معنى ما،ويستدل عليها بواسطتي.تحول نحو ذاتي ،يستحق اهتماما دقيقا .فأن يفكرالعمل في نفسه من خلالي،هل يعني بالتزامن مع ضياع مطلق لوعيي،وجود  كيان آخر يشغلني التفكير فيه،استفاد من الاختفاء كي يفكر في ذاته دون أن أستطيع التفكير فيه؟طبعا،الجواب بالنفي،فالاستحواذ على وعيي من قبل الآخر(الذي يشكله العمل)لا يتضمن نوعا من فقدان الوعي، سأكون ضحية له.

كل شيء يتحقق على العكس،كما لو انطلاقا من اللحظة التي أتبين فيها نفسي”تحت هيمنة” القراءة ،أشرع في اقتسام وعيي مع الكائن الذي توخيت تعريفه ،والمتجسد في الذات الواعية الكامنة في قلب النص.

نحن الاثنان، يصير لنا وعيا مشتركا.بالتأكيد، مع وحدة مشاعرنا، لاتتساوى الحصص.فالوعي،المتضمن في العمل ،فعال وقوي يحتل موقع الصدارة لأنه يتصل اتصالا وثيقا بعالم يمثل عالمه،وأشياء هي أشياؤه.

على النقيض،ومع التقاطي  لطبيعة وعي هذا العمل بذاته،فإني لا أمارس دائما دورا جليا،مكتفيا برصد أعمى لما يحدث داخلي.سيبرز، بهذا الخصوص  انزياح، ونوع من التميز الفصامي، بين ما أختبره ثم ما يختبره الآخر.

إدراك حسي غامض،للتأخر الناجم عن كون النص يبدو كأنه يتفكر ذاته،قبل أن يحيطني علما بما فكر فيه.أيضا، ألم يحدث لدي غالبا الانطباع نتيجة قراءتي،بأني مجرد شاهد عن فعل يهمني، مع ذلك لاتغيب عني أية جزئية.هكذا،تلفني حيرة فأنا وعي مندهش بوجود ليس وجودي،أجربه كما لو كان وجودي.

هذا الوعي المنذهل، يسمى وعيا نقديا :وعي قارئ،وكائن أمكنه ضبط كما لو كان له،شيئا يعتمل داخل وعي كائن آخر.يرسم الوعي النقدي،نوعا من التفاوت يلهم شعورا بالهوية،لكن وفق منطق الاختلاف مما يقتضي بالضرورة عدم اختفاء مطلق للفكر المنتقد.

منذ المقاربة غير المكتملة والمترددة ل”جاك ريفيير””Jacques “Rivière،إلى أخرى متحمسة واستطرادية ومفحمة كما جسدها “شارل دوبو””Charles Du Bos “سيجتاز الوعي النقدي سلسلة مستويات،يعتبر من الأهمية بمكان دراستها.هذا،ما سأحاول الآن القيام به،مستعرضا في الواقع بكيفية تقريبا كاملة مختلف أشكال المماثلة التي يقدمها الأدب النقدي الحديث،فبوسعي أن أستوعب بوضوح أكثر نوعية التغيرات الخاصة بالعلاقة القائمة بين الذات والموضوع.

سأتناول،كنموذج أول “جاك ريفيير” :  ناقد ،يعتبر عنده التماثل مهيأ تماما . إنه، حركة متعثرة للفكر ، نحو موضوع يظل بالنسبة إليه محجوبا.بينما في التطابق التام بين نوعيين ،نلاحظ أحدهما يتمرأى الآخر.غير هذا،كل ما بوسع الوعي النقدي القيام به،يكمن في محاولة الاقتراب من حقيقة تبقى متوارية.لهذه الغاية،يستخدم فقط وسائط تكمن في حواسه.

وبما أن حاسة الرؤية، هي الأكثر ذهنية من بينها جميعا،فإنها تظهرمع هذه الحالة الخاصة مشلولة، بسبب عتمة أصلية تلزم حقا الفكر النقدي،كي يتحسس هدفه على طريقة العميان، مستكشفا المساحات وهو يتلمس العوائق المادية، التي تحول بين الفكر وموضوعه.هكذا،بالرغم من مجهود مهم للذكاء،كي يتكيف مع شروط الحياة المادية ويتابع ببطء بسبب العوائق،سبيله إلى وعي الآخر، سينتهي المشروع إلى إخفاق مؤثر.

نقول ،أن الناقد البئيس يؤاخذ عليه دائما، عدم تأديته بكيفية جيدة وظيفته القرائية. يتلعثم مفككا رموزا،ومحاورا بتصنع لغة لايمكنه أبدا قراءتها بسهولة.

جوابا على الإخفاق،استخلص ناقد آخر اسمه “جاك ريفيير”Rivière،منهجية مقاربة أكثر فعالية،حيث يبدأ كل شيء بمجهود للتماثل والتطابق،يتواصل إلى أدنى نقطة.هنا،ومن فكر إلى آخر،يمر تيار يفرض علينا مساره.التماثل عند “ريفيير”،يشير إلى الحالة التي يعاين بجسده وحواسه بين طيات عالمه الخاص والمتخيل،نفس الانطباعات التي يعيشها الروائي أو الشاعر،الخاضع للدراسة.

بين الفكر الأولي، ثم فكر الأحاسيس والعواطف وهواجس الحياة السابقة عن الوعي،بوسعه أن ينعش داخل ذاته،التجربة المضطربة التي قدم النص صيغتها الأولى،لكنها ملهمة وموحية بشكل متواصل.مع ذلك،تقليد كهذا يستحيل أن يؤسس حيزا داخل ميدان يصعب جدا تحديده،دون تدخل قوة إضافية قصد مؤازرته : إنها اللغة. تجعل نقطة التطابق النقدي،جاهزة ومتحققة ومتجسدة.

تختفي الحياة العميقة للإحساس،بين ثنايا فكر الآخر.فكر،لن يتموضع حقا  لدى الناقد، بواسطة على الأقل  تلك الكلمات المكتفية بعرض سلسلة من المتعادلات.إذن،بهدف وصف الظاهرة،كما تحدث مع نقد قادرعلى مجاراة تعبير تلو التعبيرما يشتغل عليه من أدب، لا يكفيه الالتجاء إلى تمييز على طريقة”دي سوسير”إن مازال نموذج الدال والمدلول،يجسد موضة في وقتنا الحالي.فما هي الإضافة،التي سنراكمها هنا إذا علمنا أن اللغة النقدية تعني اللغة الأدبية؟لايوجد فقط تعادل وتشابه. لكن،تصبح الكلمة سلطة فعلية للإبداع ثانية : صيغة كيان ملموس حي وجسدي،يرسم من جديد حياة حسية،تعثر في شبكة التضمينات الشفوية  على التربة العضوية والأصل، الضروريان لتوليدها. 

بصيغة مغايرة،تتشوف هنا لغة الناقد مهمة،أن تعكس بدورها العالم الحسي،الذي أظهرته سابقا لغة الكاتب.نتاج غريب ،فمع هذا النقد تتجلى لغة من يقلد،أكثر حسية وملموسية من تلك التي أتى بها المقلد.يصير التعبير النقدي شعريا،متماهيا مع ذاك الصادر عن الشاعر.
هذا التقليد الإيمائي الشفوي،الخاضع لانقياد إرادي نحو أقصى حد له،لايعتبر أيضا حرفيا مبتغيا فقط مسلك المحاكاة،بل لايمكنه الوصول إلى موضوعه إلا إذا كان الأخير مندمجا بعمق في المادة الحسية،التي بالكاد يتميز عنها.

كذلك،نقد كهذا بوسعه إعطاء معادل رائع لمجرى الحياة الحسية الخفي الذي يحمل أي فكر،يبدو أنه غير قادر على بلوغ أو إدراك هذا الفكر في ذاته،وفق لحظات انبعاثه وارتقائه.نقد،تدعمه وتخدمه في نفس الوقت اللغة التي يوظفها،مادامت تجيز له التعبير عن الحساسية في حالتها البدئية،وقد استحال تقريبا التمييز بين الذات والموضوع.هذه اللغة،من جهة ثانية  تضر به، لأنها عميقة جدا لاتقر بالتحليلات، وأن النوع الوحيد من الذاتية التي تصفها تسكن وتغوص بين موضوعاتها.

هكذا،فالنص الذي تبعثه مرة أخرى العبقرية النقدية،سينكشف كما لو أنه مثقل بفيض من حياة تنبثق مع كل تكرار. بنيته متوارية،و همش تقريبا كليا نشاطه القصدي والذهني،بحيث لانرى أبدا ظهورمبدأ أعلى للوجود،ووعيا جليا وأخيرا ذاتا تحررت من أشيائها. يحافظ الوعي النقدي، على منحى غير مكتمل بالرغم من النجاحات الكبيرة.فالتطابق من الجانب الموضوعي قد أكمل إلى حد ما مختلف لبناته،لكن بخصوص الجانب الذاتي فبالكاد تتشكل ملامحه الأساسية.

بهذه الكيفية يشتغل النقد عند”جان بيير ريشار””Jean Pierre .Richard 
إلى أبعد مدى في إلغاء الذات،يبدو لي أنه يستخرج من الأعمال ما يمثل زخمها وماهيتها المادية.لكن كيف سيكون نقد، يبحث من خلال إبطال لكل موضوع،على أن يستقي من النصوص ما يشكل لديها حصريا جانبا ذاتيا؟

من أجل تصورهذا النقد،سأنتقل بوثبة إلى أقصى موقع في الجهة الأخرى،كي أتخيل لغة تبحث عمدا على الانسلاخ من جل التعقيدات التي تصادفها مع اللغة الأدبية.تحت راية هذا النقد ،لانجد أبدا فقرة أو جملة أواستعارة، لاتتكتم على هدف اختزال صور العالم الواقعي التي يتضمنها الأدب ،إلى مايشبه عدم جدوى المفاهيم المجردة.

إذا كان هذا الأدب تعريفا،انتقالا بالواقعي إلى لا-واقعية مفهوم شفوي، سيرتكز الفعل النقدي على انتقال بهذا الانتقال كي يتدرج إلى القوة الثانية،لعدم تحقق الكائنla dé-réalisationباللغة،حيث يقيم العقل أقصى مسافة بين فكره ثم ماهو موجود.وبالاعتماد،على هذا الانكماش و التجرد الجدير بكل موضوع رد إلى عمق المنظور،فإن العالم الذي تغير وضعه داخل هذا النقد لن يعادل تماما العالم الحسي أو تمثيله الأدبي الذي تبلرت صورته، نتيجة مسار عقلنة صارمة.

أن ننتقد في ظل سياق كهذا،لايعني مجرد القيام بإيماء،بل إضفاء حقيقة اللا-دلالة على كل الأشكال الأدبية،مما يفقدها جوهرها  الهوياتي وتميزها وتفردها، منتهيا بها جميعا إلى نفس الإخفاق.

إجمالا،ماذا سيتبقى لما يتبنى الفكر النقدي،مشروعا حقيقيا لإلغاء الأدب؟لاشيء،اللهم وعي يصطدم دون مهادنة بضعف على مستوى الموضوعات الذهنية،حيث لاواحدة تصمد أمامه،ولغة مطلقا شفافة والتي بطلائها الجامد على كل مالديها، تظهره (مثل أوراق تحت “ثلج بثقب عميق”)في إطار إبعاد لانهائي.

هكذا،تلعب اللغة المستعملة ،دورا مناقضا تماما للذي أوكل إليها عند “جان بيير ريشار”،فتخلق بدون شك وحدة بين الفكر النقدي والفضاء الذهني الذي يوحيه العمل الأدبي،لكنها تنجز ذلك على حساب الأخير.كل شيء،يؤول في نهاية المطاف إلى سيادة وعي غير مرتبط بأي شيء،وعي فوق-نقدي،يشتغل لنفسه فقط في الفراغ،بشكل ما.

هل توجد من حاجة إلى القول بأن هذا المافوق-نقد Supra-critique،يمارسه “موريس بلانشو Blanchot Maurice؟ لقد كان مجديا لدي إجراء مقارنة بين نقد ريشار وبلانشو.مقابلة،تعلمت منها أن الآلية اللسانية المستخدمة من طرف الناقد،تمكنه على طريقته سواء بتقريبه أو إبعاده بشكل كلي عن العمل الذي يتأمله.

إذا أراد،يمكنه أن يقارب بدقة أكثر العمل المطروح للمساءلة،بفضل محاكاة للأسلوب،مما ينقل إلى لغة الناقد التيمات الحواسية للعمل المنتقد.أو أيضا،قد يجعل من اللغة محض خاصية مركزة وبلورية بشكل مطلق،يخول لها تقويض وجود أي عتمة بين الذات والموضوع،ويمنح الأولى إمكانية ممارسة قوة معرفية،كي تفرز بجلاء داخل الموضوع مختلف المميزات التي تحدد تباعدها المستمر عن الذات.

مع أول هذه الحالات،يتأتى للفكر النقدي إقامة روابط تواطؤية غريبة،تجاه الحقيقية الغامضة التي ينشغل بها.بينما حيثيات الحالة الأخرى،تجعله يبلغ الانفصال الأكثر اكتمالا، وأقصى ما يميزه من ثقابة للفكر،ليس لها من مفعول غير استهلاك الانفصال بدل الوحدة.

هكذا،يتبدى لي تأرجح النقد بين إمكانتين،تلك المتعلقة باتحاد دون عقلنة،ثم المرتبطة بعقلنة دون وحدة.يمكنني الامتزاج كليا مع ماأقرأه،بحيث لاأفقد مجرد الوعي بذاتي،بل والآخر الذي تطويه صفحات النص.

الاقتراب من العمل، يضللني لما يحجب عني الرؤية. لكن ،بوسعي أيضا الانفصال جذريا نحو ما أتأمله، فيبدو مضمونه بعيدا جدا كي أحلم بنسج علاقات معه.بين هذا وذاك ، سيخلصني فعل القراءة من أنانيتي : يسكنني فكر آخر أو يلازمني.لكن هناك أذعن إلى أن يغمرني،بينما هنا نحتفظ معا بمسافة ونرفض التماثل.غير أن أقصى تقارب أو تباعد،يقتضيان نفس مفعول التحسر،مادمت قد فوتت جزئيا الفعل النقدي :بمعنى تعميق لهذه العلاقة الما-بينية العجيبة المتبلورة عبر وساطة القراءة واللغة،من أجل تحقيق المصلحة المشتركة بيني وبين العمل المقروء.

ينطوي إذن أقصى التقارب أو التباعد،على سلبيات وإيجابيات. إيجابية،بالنسبة للفكر الذي يعيش عتمة،كي يلج فورا قلب العمل ويقتسم معه حياته الباطنية.ثم أيضا،إيجابية تهم الفكر الواضح،حتى يمنح من يتأمله مزيدا من ممكنات الشفافية.

يبرز هنا  نوعان من الاختراق،يستبعد أحدهما الآخر : الحواس وكذا الوعي التأملي.غير أنه ،عوض معارضة هذين الصيغتين من النقد،أتساءل عن وجود وسيلة قصد تطبيقهما في نفس الوقت؟بالتأكيد،شيء مستحيل.لكن على الأقل التوفيق بينهما بواسطة حركة تناوبية .

ربما هي المنهجية المركبة،التي يطبقها اليوم “جان ستاروبنسكيJean Starobinski ؟سيكون من السهل العثور بين كتاباته على عدد من نصوص موريس بلانشو،حيث اتصف كلاهما بتوقد ذهني نادر،وكذا الإحساس بالمسافة.بيد أنه لايستسلم أبدا،ربما فيما ندر إلى سوداوية بلانشو الدائمة،حينما يتأمل  مايخلقه من انفصال أبدي أو يراقب ذكاء مكرسا لموضعة أشيائه عند مسافات بعيدة.

على العكس،يحاول هذا الذكاء مع ستاروبنسكي أن يكون متفائلا، بل وأحيانا طوباويا بشكل رائع :ذكاء، يذكرنا  بروسو Rousseauالحالم بصفاء فطري،يسود جميع الكائنات،مما يؤهلها أن تفهم بعضها البعض بنشوة وسعادة.

ألم يتم بالضبط بناء على وجهة النظر هاته، تقديم مثالية الفكر النقدي بالابتهاج المديني أو القروي،وسط ولحظة،حيث يتواصل كل واحد مع الآخر ويغدو مفهوما بيسر داخل كل القلوب؟ألا يهم هذا الأمر، وإن بشكل أقل، قصدية القراءة؟ألا يفتح الفرد من خلاله قلبه للنظرة؟ ألا يحتضن شخص ما،آخر بسبب افتتانه به. يتلقى،فكرا منفتحا بسخاء على فكره؟ يموقع  لنا غالبا نقد ستاروبنسكي، الخاصية الشفافة لموسيقى “موزار”Mozart وقد أضحت محض متعة خالصة وتبادل حميمي رائع بين ذكاء نافذ وآخر مخترق.
مع اللحظات التناغمية ،لانعثر على استبعاد سواء داخليا أو خارجيا.على النقيض،مما يظنه بلانشوBlanchot  ،فالشفافية الكاملة لا يترتب عنها انفصالا.الجميع يتنفس لدى ستاروبنسكي،تفاهما وسعادة مشتركة، ورغبة في  استيعاب متبادل.

من جهة ثانية،متعة بقدر كونها ذهنية جدا،لا تشكل هنا حصريا لذة للفكر.بالتالي،ليس بين عقول صرفة، تتموضع تلك العلاقات المثالية المؤلفة بين الكاتب والناقد،لكنه وضع يهم كائنات مجسدة، ترتقي بخصوصيات وجودها الفيزيائي،من عوائق إلى مجموعة علامات إضافية،ولغة حقيقية يؤدي تفكيكها إلى تنمية ذكاء العقول.

لقد أضاف ستاروبنسكي،قراءة الأجساد إلى جانب الأنفس.لن تكون من الطبيعة عينها، أو العمل على إدخال الذكاء في نفس حقل المعارف الإنسانية،لكنها قراءة تمنح الفكر النقدي الذي تستعمله،فرصة إقامة جسر بين أنماط مختلفة من العلم ليس لها قطعا مستوى الشفافية ذاته.

إذن، يشتغل نقد ستاروبنسكي بمرونة كبيرة،يروم نحو أعلى درجة من المعرفة الميتافيزيقية،ساعيا بجدية  اكتشاف المحيط القابع تحت الشعور،تارة مقتربا وأخرى مبتعدا،يمارس مختلف درجات التماثل وعدمه.لكن،يبدو فعلا،ارتكاز حركته على فعل استرجاعي قياسا إلى مامنحته بداية.

لقد ابتدأ بالانغماس في حميمية الموضوع الذي يدرسه.موقف،  يلزمه أن يستدرك ويعاود الانطلاق،لكن هذه المرة منفردا.لانرى هنا،تآكلا للانجذاب، لكن بالأحرى طريقة لتجنب عوائق حياة مشتركة ممددة جدا،ولاسيما الحاجة الكبيرة من أجل تحديد وجهة التموقع وفق المنظور الصحيح،وتهيئ خلاصة ماحصلنا عليه نتيجة القرب بإعادة فحصه بناء على البعد.

أيضا،ألا ينتهي دائما نقد ستاروبنسكي،بأن يلقي نظرة عن بعد أو بالأحرى من أعلى،مادام بابتعاده قد أخذ مسافة كي يتقدم شيئا فشيئا نحو موقع بارز.

هل من حقنا الجزم ،أن هذا النقد متهم كنقد موريس بلانشو،لأنه تحول في الأخير إلى فلسفة للانفصال؟نعم،بالتأكيد.لذا،ليس عبثا أن تكتسحه تيمات السوداوية، ونوستالجيا انتهى معها إلى وداع متبادل  بين الناقد و الكاتب.لكنه،وداع يجري بين كائنات شرعت تعيش بكيفية جماعية،ثم الشخص المتخلى عنه الذي يواصل بصدق استنارته بذكاء الذي تخلى عنه.

إن المؤاخذة الوحيدة، التي بوسعي توجيهها صوب نقد كهذا،تتمثل في كونه يستكين بسهولة أكثر إلى الفضاءات،التي يشعر أنه يحمل لها وضوحا.هكذا،وجراء عدم رؤيته في النصوص سوى الأفكار التي تسكنها،يمر نقد ستاروبنسكي إذا صح القول،على أشكال وحقائق مادية دون إهمالها طبعا،لكن أيضا بغير أن يتوقف عندها.جراء تأثيره،تفقد الأعمال سمكها الموضوعي،مثلما تصير جدران هذا القصر في مواقع أخرى شفافة بشكل عجيب، أمام بعض الحكايات الخارقة.

وإذا كان صحيحا،أنه لكي يحقق الفعل النقدي منجزه تماما،عليه أن يتناول (وينتج ثانية) صلة ما ،بين موضوع وفكر هو النص الأدبي نفسه،فكيف سينجح كليا النقد إذا لم  تستمر لديه غير بعض مفاهيم هذه العلاقة؟

يلزمني إذن ،مواصلة السعي وراء نقد تستمر معه هذه العلاقة.فهل،تتحقق مع نقد “مارسيل ريمون” Marcel Raymond ،أو “جون روسي” Jean Rousset؟.
لقد أقر دائما التأويل النقدي لدى ريمون،بحضور حقيقة مزدوجة مهيكلة وروحية في الآن ذاته. يكد،مبتغيا تجربة باطنية وإنجازا  فيما يتعلق بالشكل.

من جهة،لا ناقد يمتصه فكر الآخر،وإن تناسى ذاته بالمطلق.فكر،تناوله في بعده الأكثر اضطرابا،عندما اختزله إلى محض إحساس بالذات،يستشعره بالكاد من يكابد التجربة : طريق وحيد للناقد،قصد النفاد إلى ملامسة عمق فكر آخر. لكن من ناحية ثانية، يعتبر فكر ريمون نقيضا لهذا التماثل المبهم مع الفكر النقدي،عندما يتأمل بكيفية متبصرة حقيقة شكلية هي النص الأدبي : موضوع يأخذ مكانه أمام العقل،فيقدم ذاته في صيغة ملغزة،ويفرض نفسه عليه مثل اكتمال موضوعي،لكنه يزعجه التماثل معه  خلال أية لحظة.

إذن،يلاحظ مارسيل ريمون تارة ذاتا وتارة موضوعا.الذات، فكر صرف  وحضور غامض،يمتزج معه الفكر النقدي بالرغم من غيابه الشكلي.على النقيض من هذه الذات،لا يتواجد العمل الأدبي إلا بناء على صيغة محددة، تقيده وتجبره في نفس زمن الفكر الذي يفحصه كي يبقى خارجا،بحيث ينزع فكر ريمون من جهة إلى الاندثار بين ثنايا ذاتية غير قابلة للوصف،ومن جهة ثانية يبتغي الاصطدام بموضوعية غير قابلة للاختراق.

إن فكر ريمون،الموهوب على نحو مبهر كي يخضع ذاتيته إلى ذاتية الآخر،ثم يغوص في العمق الأكثر إبهاما لكل حياة روحية،يعتبر أقل عُدَّة لاكتشاف العائق الذي تجسده موضوعية النصوص،مما يجعله يدور عبثا حول نُصْب.

فهل يوطد انفصالا، يستحيل تجاوزه بين حقيقتين،يستحيل اختزال إحداهما إلى الأخرى؟الجواب حتما بالنفي،لأن ما يرسم تواصلهما داخل عمل،هي  حتما  الروحية التي  تلازمهما وتسكنهما،وينبغي الإنصات إليهما وإدراك ما يوحيان به.

تواضع جميل للأسلوب النقدي،وقد انزوى جانبا وأضحى خافتا،مقابل أن يسمع جيدا اللغة الشعرية التي ينقلها ويتناولها من جديد.شيء مدهش،حيث يصير هنا إدراك الجماليات الشكلية،الترجمة التي بواسطتها يتم بلوغ شيء  يتجاوز وجوده كل شكل.
احتراس ريمون،يحرضه في الغالب على تبني موقف تأملي تماما،يرمم بإحكام تام ما يلاحظه،بمعنى توحد كلي للذات مع موضوعاتها.لكنه،يتجنب أن يستعرض ثانية-والبحث من أجل اكتشاف-المسارالذي عبره، تدرك الذات والموضوعات الإيقاع ذاته.
هكذا نستشف نوعا من السكونية، بل وعجز هذا النقد عن ملاقاة منهجية ومخرج لقضاياه.كيف نشرح مثلا وفق هذا المنظور،الحركة التي بواسطتها ينتقل الفكر النقدي من تأمل خارجي بالضرورة للشيء،إلى فهم جواني للذات؟وهل هناك فعلا عبور؟ألا يتعلق الأمر،بعكس مباغت لوجهات النظر؟إنها الأسئلة،التي ينهض عليها نقد ريمون ولايحلها إلا بالممارسة :كما لو يرفض أساسا-أو لايستطيع ذلك- توجيهنا صوب الطريق السري الذي من خلاله يضم نقد ريمون الأشياء إلى الذات.

لكن ،ألا يجسد ربما نموذج ناقد آخر اسمه “جون روسيJean Rousset،عونا كبيرا  نحو العثور على هذا السبيل؟مادام سيتبنى بدوره، مهمة أن يستوعب  بانتباه عادل بنية العمل مع التجربة الإنسانية التي يضمرها.غير، أن هاجسه الأول والأخير،يتجه إلى  تبيان علاقة السببية الفاعلة المتجلية في إطار التباس أحدهما مقابل وضوح الآخر.

العمل لدى روسي ومعه الاتجاه البنائي،لا تشرحه العناصر الموضوعية التي تؤسسه،لأنه كما يعتقد  ليس مجرد تآلف لأشياء معطاة تؤول بعديا،كما لو أنها شكلت نظاما قبليا.

يحتاج النظام النصي حسب روسي،إلى مبدأ ممنهج يشتغل في ارتباط مع هذا النص،بل ويضمه أيضا. باختصار،يتأسس بيت للعنكبوت على مركز، هو العنكبوت ذاته.

لايفهم من الأمر، تخليا عن العمل بهدف فهم صاحبه،لكن العودة إلى عمقه والإدراك الحسي للعناصر الموضوعية،التي تتهيأ بجلاء حتى تحقيق نوع من الإرادة الموحدة المتضمنة في العمل،كما لو أن الأخير يظهر بكيفية موهوبة عن وعي قصدي يحدد اتجاهاته الخاصة.

هكذا،لن نفرط في العبارات إذا قلنا،بأن العمل يتصرف دلاليا ويتكلم عبر بنيات،لغة يبين بالاعتماد عليها، الفكر ذاته الذي يفعّله داخليا.ذلك،هو المشروع النقدي لجان روسي : إنه يثابر،موظفا العناصر الموضوعية الشكلية للعمل،متجاوزا إياها صوب حقيقة أبعد منها ليست بموضوعية ولا شكلية، مترسخة في الأشْكَال وتعبر عن نفسها من خلالها.

لقد أوضح لنا المؤرخ”Focillon ” ذات يوم، أن هناك “حياة للأشْكَال”نتلمسها مع التطور التاريخي للنصوص.أيضا، يسري داخل كل عمل نشاط مبدع وخالق،يأخذ بواسطته شكلا بل يمر أحيانا من شكل إلى ثان، متأرجحا مثل باقي الأعمال،بين إرادة للتوطيد تجمده ثم اندفاع مغير يمضي به كي يجرب مجموعة تمظهرات.

أي هدف أكثر جاذبية،  بوسع الناقد اقتراحه،غير تعقب هذه الإرادة المركبة للتكوين في تطوراتها؟الرؤية المعرفية لمارسيل ريمون، ستجد إذن اكتمالها مع منهجية روسي. الأخيرة،تقود الباحث عن الموضوعية إلى الذاتية وحدود (متحركة)للشكل،ثم ما يتجاوز كل شكل.نتيجة ممكنة، إذا اعترف الناقد بوجود مبدأ ذاتي في العمل، يرشد أو يرتب حياة موضوعاته،ويحدد أيضا شكله ثم يتقرّر هو ذاته من خلال هذه الحياة الشكلية.

يجدر ،الوقوف بالبحث هنا،مادام قد عانق هدفه الذي يرتكز على الوصف،مستندا على سلسلة أمثلة، ومنهجية نقدية تستهدف في نهاية المطاف أن تميز في الأعمال الأدبية على علاقات ذات مع موضوعاتها.مع ذلك، تترصدنا صعوبة أخيرة.

من أجل إقامة التداخل العلائقي،بين الذات والموضوع،يبرز مساران ممكنان نظريا يرسمان كل عمل،مثلما وضح “بوريس دو شلويزر” : واحد يذهب من الموضوع إلى الذات،والآخر من الذات صوب الموضوع.لقد سبق،أن رأينا السعي المثابر لريمون و روسي عبر دراسة بنيات، بغية إرجاع الموضوعات إلى المبدأ الذاتي الذي يمارس عليها صلاحيته.

على النقيض،سنلاحظ مع ريفييرRiviére  وجان بيير ريشار وستاروبنسكي،إقامة نقد  ينطلق  من حدس الفكر المتموضع في عمق العمل، قبل كونه محضر ضبط لأشكال يتقرر بواسطتها هذا الفكر أثناء تطوره.لكن،ينبغي دائما على النقد ملاحقة من مختلف النواحي بين الأشكال والموضوعات،حضور ذات سابقة عنهما.

إذن،المنهجيتان المتباعدتان ظاهريا والمرتكزتان على الذهاب من الموضوع إلى الذات أو من الذات إلى الموضوع، تعودان إلى واحدة تستند حقا على الذهاب من الذات إلى الذات عبر الأشياء :وصف دقيق للمراحل الثلاثة،لكل مسار تأويلي.

مع ذلك، قصد كهذا يجهل أو يهمل نقطة في غاية الأهمية. عكس،سياق بعض الجمل التي سلمت بها خطأ في الإشارات أعلاه،يقوم خطر جسيم مع إرجاع كل نقد إلى مجرد تحويل لاهتمام ينتقل من الموضوعات إلى الذات، والعكس صحيح.يستحسن القول ،بأن  مهمة النقد اتجهت  إلى تحوله عن الذات في علاقة بموضوعاتها،نحو نفس هذه الذات التي ستتناول في ذاتها بعد تخلصها من كل حقيقة موضوعية.
هل الأمر ممكن؟أحقا ، باستطاعة النقد التطابق مع حقيقية محض ذاتية؟هل يمكنه تناول الفكر الذي يضمره النص؟.فكر،تخلى عن نفس الأشكال التي تساعده في التعبير،ثم لكي يصير مرئيا يلزمه أن يتلاشى؟.

لقد استشعرت،الأفق  ذات مرة وأنا أزور “سان روكو” ب”فينيسيا” Venise،المدينة الاستثنائية التي ترتقي بالفن،حيث تتراكم لوحات شتى لرسام واحد اسمه”TinToret”،فاعتقدت لحظة بأني أدركت الماهية المشتركة لمختلف أعمال هذا الأستاذ الكبير. ماهية،يستحيل التقاطها فقط إذا محوت من ذهني جميع الصور التي تتجمع صوب مركز بعينه .هكذا،بدون صور أتمثل في نهاية المطاف بوعيي هذه الماهية.ذات منعزلة، متجردة بسبب تقلص كل ما يحيط بها ويحددها؟ من،هذه الذات المنعزلة والغائية؟هل عبقرية الفنان،بمثابة الخاصية الرئيسية لكل وعي مبدع ألفى نفسه منخرطا في أفعاله،أو يتحرر منها في الأخير كما عند “فاليري”Valéry؟أو هو بصيغة أكثر دقة مثلما يعتقد دائما”فاليري”،مجرد إدراك بوعيي النقدي للعنصرالذاتي المفارق،الذي يمثل في بعض الأعمال مفصلها،لكنه يمارس مع ذلك لعبته جانبا؟كيفما الأمر، ينبغي أن ألاحظ جيدا،أن ذات عمل من الأعمال،لا تكتفي فقط بنسج علاقات مع الحقائق الشكلية التي تتعايش معها داخل النص،لكنها قادرة كذلك على أن تلزمها بنظام الأخير،أو عدم المبالاة فتتوقف عن الاهتمام بها.

إذن،لكل منهجية نقدية مهمة صريحة،تستهدف جعلي أرصد أولية الوعي الذاتي.فالعمل أولا، وعي بما يطرحه. طبعا،بدون مساعدة حقائق موضوعية شكلية،سيجازف هذا الوعي كثيرا بعجزه عن تبيان نفسه.لكن،كونه يموضعها،وأن هذا الحضور يبرز قضية أخيرة ،فلنحترس مجددا على عدم الخلط بين الوعي المحايث للنص ثم وعي الكاتب أو القارئ.

كيان فئوي خالص،وربما فقط الوعي بالذات، سيتأكد مع كل نشاط للفكر،باعتباره فكرا.  مع افتراض،أنه كذلك في ذاته وبقدر التعدد الذي تظهر به كنهها موضوعات الوعي،سيجد الأخير نفسه عند مستوى معين مرتبطا بها  على نحو متداخل جدا.لكن،هذا يعني مع لحظة أخرى،تتموقع بالاستدلال،أنه سيتجاوز هذه الموضوعات ثم يمسك بذاته.

يبدو أن المستوين،يلتقيان ثانية داخل كل عمل أدبي (وربما فني أيضا). يتضمن العمل،عنصرا ذهنيا كليا منخرطا بعمق في الأشكال الموضوعية،التي تكشفه وتخفيه في الآن ذاته، ثم سطحا مغايرا أكثر ارتفاعا متخليا عن أشكاله، فالوعي يتبدى لذاته وإلينا نتيجة تساميه قياسا لكل ما ينعكس عليه.

أخيرا،تبدو نقطة حيث لايعكس شيئا، مكتفيا دائما بالتواجد في النص بل فوق النص،وأقصى ما يمكن قوله بخصوصه أنه هنا وعي.حينذاك، لا موضوع باستطاعته التعبيرعنه،أو بنية تحدده،مادام يظهر ذاته بصيغة تفوق كل وصف ومبهم جدا.ربما لسبب كهذا،يبدو الناقد في إطار تأويله للأعمال،كأنه مهووس بهذا التسامي الفكري.

يظهر إذن،أنه بغية مصاحبته الفكر في مجهوده التحرري،احتاج الناقد أولا وأخيرا إلى نسيان المنحى الموضوعي للنصوص،كي  يرتقي نحو التناول المباشر لذاتية دون موضوعات.


1  - George poulet :la conscience critique :troisième édition ;josi corti ;1986.PP.275-299 . 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق