بقلم : زهير الخويلدي
مقدمة:الفكر العلمي الجديد |
لقد تشكلت أزمة العقلانية العلمية المعاصرة من وجود تفاوت بين الفلسفة والعلم ومن هوة بين العقلانية الصورية والعقلانية التجريبية وتباعد منهجي بين منظومة الغايات ومنظومة الوسائل. هذا اللاّانطباق بين الاتجاهين يقف وراءه التشبث بالمطلقات وتضييق مجال التأسيس في عناصر محدودة ومقولبة والارتكاز على أنساق مغلقة والاستناد الى قيم تقليدية ورفض التجديد والتقدم.
لقد تفطن غاستون باشلار( 1884-1962) الى هذه الأزمة التي أصابت المدونة العلمية المعاصرة وتحسس صعوبة تشخيص العلل والتعرف على الأسباب وانتبه الى تعثر محاولات الخروج من هذه المضيقات بالتعويل على اتجاه ابستيمولوجي دون آخر وبالانحياز الى مذهب فكري دون غيره.
بيد أن المجال الذي برزت فيه هذه الأزمة بأكثر وضوح وتجلي هو مجال الحقيقة والمعرفة وعلاقة ذلك بالعقل والتجربة وبالنظرية والتطبيق واتصالها بالتاريخ والمجتمع والخيال واللغة وذلك ناتج عن ضبابية مفهوم الحقيقة وتداخله مع مفاهيم اليقين والبداهة والصدق والصواب والصلاحية والصحة.
من هذه المنطلق يمكن طرح اشكالية الحقيقة في الابستيمولوجيا الباشلاردية من زاوية القيمة المعرفية والاستتباعات العملية والرهان الأنطولوجي والوظائف الاجرائية التقنية التي تؤديها.
فما الحقيقة؟ وماهي شروط امكان تحققها؟ وكيف تكون معرفة الحقيقة ممكنة؟ هل بواسطة العقل أم بالتجربة؟ وهل تعلب الرياضيات دورا مركزيا في ذلك؟ وماهي صلاحية وحدود العقلانية ؟
فما علاقة الحقيقة العلمية بتاريخ العلوم؟ وهل يتعلق الأمر بحقيقة واحدة كلية ومطلقة تستوعب جميع التطورات والتحولات أم بعدة حقائق جزئية ونسبية تتغير بتكاثر الثورات والانكسارات؟
" من جهة أخرى، لماذا البحث عن حقيقة أخرى عندما تكون حقيقة الكوجيتو بالمتناول؟ لماذا الاكتفاء بمعرفة ناقصة، غير مباشرة، عندما يكون متوافرا امكان معرفة كاملة أصلا؟ "[2] أليست الحقائق هي مجرد أخطاء وقع تصحيحها ؟ ألا توجد في المعرفة أخطاء أولية بدل حقائق أولية؟ كيف يضحي العمل العلمي بالمعرفة العامية من أجل بلوغ المعرفة العلمية؟ ولماذا ينبغي تجريد الواقع العيني من أجل الارتقاء الى الواقع الموضوعي؟ ألا تقتضي الموضوعية العلمية الفصل بين الذات والموضوع منهجيا وبناء الوعي الابستيمولوجي عن طريق الترييض والنمذجة؟
ما نراهن عليه التخلي عن الحقيقة كمعطى جاهز وتطابق شكلي بين العقل والطبيعة واعتماد الحقيقة كبناء تخيلي ومسار جدلي بين العقل والتجربة ضمن رؤية ابستيمولجية منفتحة ومتطورة.
1-الصياغة الابستيمولوجية للحقيقة:
" العقلانية المعاصرة تلح على ابراز القيم الابستيمولوجية ابرازا يقوم على ادراك مظاهر التجديد التي تميز كل مرحلة علمية وكل نظرية علمية وما تحمله من جديد"[3 ]
لقد كان لغاستون باشلار السبق في بلورة خطاب ابستيمولوجي حول العلم والتشريع للفلسفة بتوظيف المناهج والنتائج العلمية لمصلحتها وذلك بالتساؤل عن شروط امكان المعرفة العلمية وجعل العلم مطية للتفلسف والسعي لتدارك النقائص والثغرات التي تعاني منها الفلسفات التقليدية.
بعد أن كانت الفلسفة لا تلفت الى العلم سوى لتحقيق أغراضها التعرف على هويتها تشكل مع غاستون باشلار خطاب فلسفي نقدي يركز على المنطق الداخلي والخاص بالعلوم ويبحث عن الصعوبات والعوائق الذاتية و يستقرئ ويستنبط الشروط والوسائط الضرورية للتغلب عليها وفتح أروقة وتجهيز أرضية للإبداع والابتكار وذلك برسم خطوط التباين بين المعرفي والايديولوجي.
لم تقتصر الثورة الابستيمولوجية التي أنجزها باشلار في مجال فلسفة العلوم على بيان أن العلم في حالة ندم متواصل ولا يستغني عن كل مقاربة منهجية ترجع به الى الماضي وتعتبره في حالة تجدد مستمر وتاريخ مراجعة للأخطاء وإنما انتبه الى أن بنية العقل في تبدل دائم حسب تطور مواضيعه وأن الحقيقة غادرت دنيا الثبات والجوهرانية والإطلاق وأصبحت متعددة الأبعاد وجزئية ونسبية وتبعا لذلك صارت تتحرك ضمن مجالات الصلاحية ودوائر المواءمة وحقول الانطباق.
والحق" أن أطروحة كتلك التي نتبناها تطرح المعرفة كتطور للفكر وتقبل بوجود تبدلات تشمل وحدة وثبات الأنا أفكر من الطبيعي أن تربك الفيلسوف"[4] . لقد قام باشلار بتفسير التحولات الطارئة على صعيد المعرفة بتفجر ثورات وبكون مسار العلوم هو حركة ديناميكية وتاريخه ليس تقدما متصلا ولا تنضيد لطبقات تراكمية وترسبية بل جدل بين المكبوتات والترسبات وبين العوائق والقطائع الابستيمولوجية واعتراف بأن نقدية العلم وإتيان الذات العارفة للخطأ وتفتح العقل العلمي على ابداعات الفكر والتخيل وانتصار الارتياب على الوثوقية.
ليست الحقيقة العلمية معطى أنطولوجيا قابل للإدراك ولا جوهر ثابت تكتفي الذات بالكشف عنها وإنما صناعة تقنية وابتكار دلالي وإنشاء تخيلي يقوم على المراجعة المستمرة والتثبت التجريبي.
غني عن البيان أن العقل العلمي الجديد عند غاستون باشلار يتأسس على جملة من القواعد ومجموعة من الخصائص المبتكرة هي كالآتي:
- العقلانية التطبيقية تتأسس على علاقة جدلية منفتحة بين الرياضيات والفيزياء.
- العقل ثمرة التطور العلمي ولا توجد بنية ثابتة تحكم جميع أنظمة المعرفة.
- المنهج العلمي يتم خلقه بطريقة جزئية بالانطلاق من العمل العلمي ذاته ولا يوجد منهج كلي وشامل وقابل للتطبيق مع جميع المواضيع.
- الواقعة العلمية تُبنَى بالاعتماد على نموذج رياضي مبتكر ولا توجد واقع بسيطة ومعطاة بشكل جاهز يمكن معاينتها واكتشافها.
- الابستيمولوجيا هي دراسة نقدية لتكون المفاهيم العلمية وطرق اشتغالها وبحث في العمل العلمي من داخله قصد التخلص من العوائق الثقافية والتغلب على المشكلات واستشراف الآفاق المنطقية وتثمين المكاسب من القطائع والثورات.
اذا كان لابلاص قد قام بتعميم مبدأ الحتمية على كافة مجالات المعرفة ونظر إلى حالة العالم الراهنة بوصفها نتيجة لحالته الماضية وسبب لحالته المستقبلية وأرجع جميع الظواهر إلى قوانين عامة وربط التوقع الدقيق بما سيحدث من ظواهر في عالم الطبيعة بالمعرفة التامة لحقيقة الكون فإن غاستون باشلار عن كشف عن المثالية المفرطة التي يتميز بهام بدا الحتمية الكونية وشكك في إلمام العقل العلمي في نفس الصيغة بحركة أخف الذرات وأكبر المجرات وجعل الفكر العلمي يهتم بظواهر مهيكلة وبأنظمة منعزلة وآمن بمبدأ اللاّتعين والحتمية الجزئية والقطاعية والخاصة وتخلي عن إمكانية التوقع بشكل صارم[5 ].
غير أن الابستيمولوجيا الباشلاردية واجهت العديد من الصعوبات وأشكال مختلفة من سوء الفهم وذلك راجع إلى أن " الثقافة العلمية متروكة، وللأسف، لحكم الذين لم يقوموا قط بأدنى جهد لتحصيلها"[6] . فكيف عملت على إدخال مفهوم الخطأ في قلب تجربة الخطأ نفسها؟ وهل الخطأ مفهوم سلبي أم ايجابي في العمل العلمي؟
2- جدل الحقيقة والخطأ في تاريخ العلوم:
" عندما نعود إلى ماض من الأخطاء نعثر على الحقيقة في نوع من الندم والمراجعة الفكريين"[7]
ينبغي التمييز من الناحية الاجرائية بين الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم، فالأول هو معرفة فلسفية حول العلم من جهة شروط امكانه وقوى انتاجه وعمل نقدي حول مشروعيته وصلاحيته وتتبع لتشكل المفاهيم ونموها وهجرتها من حقل الى آخر. أما الثاني فهو مجال يعتني بتاريخ النظريات العلمية من جهة ميلادها واستحواذها على قيمة تفسيرية للطبيعة وسقوطها وتحولها الى أخطاء وأوهام. هكذا يشهد تاريخ العلوم جدل خصب ومستمر بين الحقائق والخطاء ويعرف مراجعات وهدم وبناء. لكن ماذا نعني بالحقيقة العلمية؟ وما الفرق بين الحقيقة في العلم وفي الفلسفة؟
التعريف الاسمي للحقيقة هو اتفاق المعرفة مع موضوعها ولكن الحقيقة في معناها الفلسفي هي الذات والماهية والهوية ومطابقة الحكم العقلي للواقع الخارجي والتحقق الوجودي للفكرة الشاملة . بناء على ذلك يمثل لفظ الحقيقي صفة تطلق على الحق وأمر متعلق بالأشياء، وعلى سبيل المثال التفكير الحقيقي هو التفكير الخالص من اللبس والغموض. في هذا السياق يمكن التمييز بين حقيقة صورية (formelle) وهي اتفاق الفكر مع ذاته دون الوقوع في تناقض منطقي وحقيقة مادية وهي اتفاق الفكر مع الطبيعة وتأييد عينات من التجربة لجملة الافتراضات النظرية.
كما يتميز التصور التقليدي للحقيقة بثلاثة خصائص:
- الحكم المنطوق هو مكان ظهور الحقيقة
- التطابق مع الموضوع هو ماهية الحقيقة
- المنطق هو المعيار الشمولي الكلي للحقيقة [8].
غير أن العقلانية العلمية المعاصرة وبعد حدوث أزمة الأسس في الرياضيات والفيزياء وتشكل نظرية المجموعات ونشأة الهندسات اللاإقليدية وتهدم مبدا الحتمية الصارمة واكتشاف الاحتمال ومبدأ اللاّتعين في الميكروفيزياء واحلال آينشتاين مفهوم النسبية مكان كونية الجاذبية عند نيوتن غيرت كثيرا من مفهوم الحقيقة وجعلته يقترب أكثر من مفهوم الخطأ ويبتعد عن مفهوم التطابق.
أما الخطأ فهو ضد الصواب بحيث يحكم المرء على شيء بأنه باطل في حين أنه حق أو يحكم عليه بأنه حق في حين أنه باطل ويعود ذلك الى سوء تقدير في الحكم ووقوع في الزلل والخلط. كما ارتبط الخطأ بالخطيئة والذنب والإثم من الناحية الأخلاقية ويكون ضديد العمد حينما يصدر الفعل عن قصد في الاحساس أو التصور. في هذا السياق أقر باشلار بأن الحقيقة هي خطا وقع تصحيحه. ويعني أن تاريخ العلوم هو تاريخ مراجعته لأخطائه باستمرار وأن الحقيقة ليست نهائية وثابتة ومطلقة بل متعددة وخاضعة لمنطق الهدم والبناء وجدلية العقل والتجربة ويمكن القيام بتعديلها ان اقتضت ضرورات البحث المنهجي واستقراءات التجربة الفيزيائية والنظرية الرياضية.
" اننا نعرف ضد معرفة سابقة وذلك بتحطيم معارف لم تكن مشيدة على أساس صلب وبتجاوز ما يمثل عقبة تحول دون الفهم"[9] وبعبارة أخرى ان الفكر العلمي يتقدم عبر هدم الفكر اللاّعلمي.
" لقد تعرض تصور الحقيقة لتحول جذري خلال القرون الثلاثة الأخيرة فقد كان القرن19 ما يزال يخضع الى فكرة الحقيقة المطلقة التي يتوصل اليها عندما يلحق الفكر بالواقع ويتطابق معه"[10]. هكذا تميزت نظرية الحقيقة في الابستيمولوجيا المعاصرة بخصائص ثورية غير معهودة في السابق هي قابلية المراجعة والتكذيب والتناسق مع النظرية وقابليتها للصياغة الصورية والأكسمة وكذلك التلاؤم مع التجربة أو الحدث وقابلية التصديق أو التأييد بواسطة المفيد والنافع والصالح. لكن ما الفرق بين العقلانية الكلاسيكية في العلم الحديث والعقلانية النقدية المعاصرة؟
" عندما نعود إلى ماض من الأخطاء نعثر على الحقيقة في نوع من الندم والمراجعة الفكريين"[7]
ينبغي التمييز من الناحية الاجرائية بين الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم، فالأول هو معرفة فلسفية حول العلم من جهة شروط امكانه وقوى انتاجه وعمل نقدي حول مشروعيته وصلاحيته وتتبع لتشكل المفاهيم ونموها وهجرتها من حقل الى آخر. أما الثاني فهو مجال يعتني بتاريخ النظريات العلمية من جهة ميلادها واستحواذها على قيمة تفسيرية للطبيعة وسقوطها وتحولها الى أخطاء وأوهام. هكذا يشهد تاريخ العلوم جدل خصب ومستمر بين الحقائق والخطاء ويعرف مراجعات وهدم وبناء. لكن ماذا نعني بالحقيقة العلمية؟ وما الفرق بين الحقيقة في العلم وفي الفلسفة؟
التعريف الاسمي للحقيقة هو اتفاق المعرفة مع موضوعها ولكن الحقيقة في معناها الفلسفي هي الذات والماهية والهوية ومطابقة الحكم العقلي للواقع الخارجي والتحقق الوجودي للفكرة الشاملة . بناء على ذلك يمثل لفظ الحقيقي صفة تطلق على الحق وأمر متعلق بالأشياء، وعلى سبيل المثال التفكير الحقيقي هو التفكير الخالص من اللبس والغموض. في هذا السياق يمكن التمييز بين حقيقة صورية (formelle) وهي اتفاق الفكر مع ذاته دون الوقوع في تناقض منطقي وحقيقة مادية وهي اتفاق الفكر مع الطبيعة وتأييد عينات من التجربة لجملة الافتراضات النظرية.
- الحكم المنطوق هو مكان ظهور الحقيقة
- التطابق مع الموضوع هو ماهية الحقيقة
- المنطق هو المعيار الشمولي الكلي للحقيقة [8].
غير أن العقلانية العلمية المعاصرة وبعد حدوث أزمة الأسس في الرياضيات والفيزياء وتشكل نظرية المجموعات ونشأة الهندسات اللاإقليدية وتهدم مبدا الحتمية الصارمة واكتشاف الاحتمال ومبدأ اللاّتعين في الميكروفيزياء واحلال آينشتاين مفهوم النسبية مكان كونية الجاذبية عند نيوتن غيرت كثيرا من مفهوم الحقيقة وجعلته يقترب أكثر من مفهوم الخطأ ويبتعد عن مفهوم التطابق.
أما الخطأ فهو ضد الصواب بحيث يحكم المرء على شيء بأنه باطل في حين أنه حق أو يحكم عليه بأنه حق في حين أنه باطل ويعود ذلك الى سوء تقدير في الحكم ووقوع في الزلل والخلط. كما ارتبط الخطأ بالخطيئة والذنب والإثم من الناحية الأخلاقية ويكون ضديد العمد حينما يصدر الفعل عن قصد في الاحساس أو التصور. في هذا السياق أقر باشلار بأن الحقيقة هي خطا وقع تصحيحه. ويعني أن تاريخ العلوم هو تاريخ مراجعته لأخطائه باستمرار وأن الحقيقة ليست نهائية وثابتة ومطلقة بل متعددة وخاضعة لمنطق الهدم والبناء وجدلية العقل والتجربة ويمكن القيام بتعديلها ان اقتضت ضرورات البحث المنهجي واستقراءات التجربة الفيزيائية والنظرية الرياضية.
" اننا نعرف ضد معرفة سابقة وذلك بتحطيم معارف لم تكن مشيدة على أساس صلب وبتجاوز ما يمثل عقبة تحول دون الفهم"[9] وبعبارة أخرى ان الفكر العلمي يتقدم عبر هدم الفكر اللاّعلمي.
" لقد تعرض تصور الحقيقة لتحول جذري خلال القرون الثلاثة الأخيرة فقد كان القرن19 ما يزال يخضع الى فكرة الحقيقة المطلقة التي يتوصل اليها عندما يلحق الفكر بالواقع ويتطابق معه"[10]. هكذا تميزت نظرية الحقيقة في الابستيمولوجيا المعاصرة بخصائص ثورية غير معهودة في السابق هي قابلية المراجعة والتكذيب والتناسق مع النظرية وقابليتها للصياغة الصورية والأكسمة وكذلك التلاؤم مع التجربة أو الحدث وقابلية التصديق أو التأييد بواسطة المفيد والنافع والصالح. لكن ما الفرق بين العقلانية الكلاسيكية في العلم الحديث والعقلانية النقدية المعاصرة؟
3- معايير العقلانية التطبيقية:
"على العقل أن يطيع العلم ويمتثل له في أكثر أشكاله تطورا وفي سعيه نحو التطوير"[11] لقد أدى تطور العلوم في القرن العشرين إلى تصحيح العلاقة بين الفلسفة والعلم والتفريق بين الفلسفة العلمية وفلسفة العلم وتحديد مهمة كل من الفيلسوف ورجل العلم وتعديل مفاهيم الحقيقة والعقل والحتمية واحراز استقلالية العلوم عن الفلسفة وجعل العلوم لا تستبعد الفلسفة وتحل ملها بل تحتاج اليها من أجل فهم آليات اشتغالها وممارسة النقد الابستيمولوجي على ذاته والتطور.
لقد نتج عن التحولات المعاصرة في نظرية التفسير السببي للطبيعة استبعاد جملة التصورات الكلاسيكية للحتمية والعقلانية وبناء فلسفي معاصر للمناهج العلمية ووضع معايير جديدة للعلم. من سمات التطور الذي حصل في المعرفة العلمية حسب غاستون باشلار هو تجاوز الثنائيات الحدية مثل المثالية والتجريبية ونحت مفهوم علائقي تفاعلي بين الزوج المفهومي هو العقلانية التطبيقية التي تحتاج إلى فعل التنظير العقلاني من جهة الرياضيات وتعود إلى التثبت التجريبي من جهة الفيزياء ومختلف العلوم التطبيقية مثل علم الفلك وعلوم الطبيعة وعلوم الأحياء. بيد أن العلاقة بين العقل والتجربة ليس مجرد علاقة توفيقية بل جدلية حيث تراقب التجربة المجهزة شغل العقل وتصححه ويقدم العقل إلى التجربة الإضافة عن طريق الافتراض والاستنتاج ويفتح الآفاق ويوسع حقول العمل ويستشرف دوائر الاختبار واستتباعاته الممكنة ويخطط للمستقبل.
لقد كشفت الصيرورة التاريخية للحقيقة العلمية عن ميلاد روح علمية جديدة وقد ساهم غاستون باشلار في وضع لوحتها المفاهيمية وربطها بالعقلانية التطبيقية والقطيعة الابستيمولوجية وفلسفة الرفض ومبدأ الاحتمال وواجه بها المبادىء التي استندت عليها هندسة إقليدس وفيزياء نيوتن.
لا تكون الفلسفة الجديدة للعلم الا في تضاد مع الديكارتية التي وقعت في التبسيط والتجريد العقلي والشك المصطنع وابتعدت عن التجربة واعتقدت في وجود أفكار فطرية وطبائع بسيطة ومطلقة. ولا تتحقق هذه الابستيمولوجيا الباشلاردية الا بالتخلص من القبلي الذي يهمش التجريبي ولا تتطور إلا حينما تتمكن من صياغة بنية التجربة من أجل إظهار الواقع وإبراز التعاون وتبادل الخدمات والنصائح بين التجربة والفكر حيث يتصل العقلاني بنظيره التجريبي ويثريه في حركة جدلية منفتحة وتطورية. كما أن الحقيقة العلمية هي مؤقتة وتظل محل خصومة متواصلة بين النظريات ولا تستقر وتنضج إلا عند حصول إجماع بين رجال العلم واتحاد بين عمال الحقيقة.
كما أن تقدم المعرفة العلمية لا يحصل إلا عن طريق التغلب على الصعوبات وإحداث قطائع مع الأزمات والدخول في حرب مع المعارف السابقة والقطع مع معطيات الحس والمعرفة العامية.
لا تقدر فلسفة الرفض عند باشلار على إرضاء العلماء والفلاسفة في الآن نفسه إلا إذا كانت منفتحة وقادرة على تجاوز نفسه والشعور بالندم من عملها والقيام بتجديدات متواصلة في المناهج والمقولات والدفع بالعقل إلى تطوير بنيته المعرفية تحت تأثير تطور المعارف والحقائق الجديدة.
هكذا تتصف العقلانية التطبيقية بالانفتاح الفاعل والمرونة في التطبيق والفكر الجدلي مع الواقع وتتكون بالممارسات العلمية الميدانية وتؤمن بالحتميات الجهوية والقدرة على الخلق والإبداع[12] . اللافت للنظر أن المعرفة الموضوعية تقتضي القيام بتحليل نفسي للأساطير والأوهام التي تتسرب إلى رسالة العلم وتختلط بالرؤى والتصورات المقترحة لتفسير الكون ولذلك تنزع العقلانية التطبيقية نحو المادية التجريبية وتكاد تتحول إلى فلسفة وضعية ذات مسحة كانطية.
خاتمة:
"حينما يظهر الفكر في الثقافة العلمية لا يكون البتة شابا. انه هرم جدا لأنه يعاصر أحكامه المسبقة"[13]
إذا كان أينشتاين يمنح العقل إلى جانب التجربة دورا بارزا في بناء العلم عن طريق الاختراع والتخيل والخلق والافتراض والترييض والأكسمة والصورنة والتجريب والتطبيق والتحقق والبناء المجرد والابتكارات الحرة فإن باشلار يسير في الاتجاه المعاكس ويقر بوجود قطائع وحدوث انكسارات وتفجر ثورات في مسار تاريخ العلوم ويعترف بفضل العلم في تثقيف العقل وتطويره وتعليمه وتدريبه وتمكينه من الاستفادة من أخطائه وتجاوز كبواته وتخطي عوائقه ومكبوتاته.
لا ينتقل العلم من المعرفة العامية الى المعرفة النظرية ومن الواقع العيني إلى الواقع الموضوعي إلا بإحداث قطيعة ابستيمولوجية مع المعطى المباشر والتجربة العفوية وتحطيم الحكم المسبق والأقوال غير العلمية والتوجه نحو المبني وإقامة التجربة المتوازنة وعقلنة الظواهر وحساب الوقائع وتوسيع الحدوس بطريقة جدلية وتشكيل نسق معرفي جديد قادر على استيعاب التناقضات وتفسير الكون وتوسيع دوائر العد وتماسك الحساب ودقة البناء الهندسي لتشمل كلية الواقع.
" ليس الفكر الواقعي أبدا هو الذي يثير من تلقاء نفسه أزماته الخاصة ، وإنما ينبجس الاندفاع الثوري من ناحية أخرى . انه يولد من مملكة المجرد. ولذا فإنه في المجال الرياضي توجد ينابيع الفكر التجريبي المعاصر"[14] .
هكذا يخضع العقل العلمي لشروط إمكان المعرفة العلمية ويتم الانتقال من التجربة العفوية الى التجربة التقنية وتتغير بنية العقل بتبدل مواضيعه وحقائقه وتبرز للعيان عقلانية تطبيقية تتميز بالانفتاح والتطور وتقوم بجدلنة العلاقة بين العقل والتجربة.مجمل القول أن غاستون باشلار نادى بترتيب المعرفة العلمية حسب مقتضيات العقل العلمي وتأسيس النظريات العلمية على أنقاض المعرفة العامية وحرص على التمييز بين المعقوليات العلمية دون أن يتخلى عن معقولية موحدة لجميع العلوم ودون أن يسقط من حسابه إمكانية بناء علم شمولي يجمع بين الرياضيات والفيزياء.
كل حقيقة علمية جديدة تولد بالرغم من بداهة التجربة المباشرة والفكر العلمي هو تعديل للمعرفة وتوسيع لأطرها عن طريق محاكمة للماضي التاريخي ، ولكن ألا ينعكس التصور الديناميكي للحقيقة على الإقرار بقدرة العقل العلمي على التحلي بمبدأ الموضوعية العلمية في تفسير الكون؟
الاحالات والهوامش:
[1] غاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد، ترجمة عادل العوا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة ثالثة، 1990. ص55.
[2] غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، ترجمة بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة أولى، 1984. ص.235.
[3] يفوت ( سالم ) ، فلسفة العلم في العقلانية المعاصرة، دار الطليعة، بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية ، 1989. ص.63.
[4] Bachelard (Gaston), la philosophie du non, Essai D’ une nouvelle esprit scientifique, édition PUF, Paris,1940, p.09.
[5] Bachelard (Gaston), l’activité rationaliste de la physique contemporaine, édition PUF, Paris, 1951, p.217.
[6] غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، مصدر مذكور، ص.189.
[7] Bachelard (Gaston), la formation de l’esprit scientifique , édition Vrin, Paris,1970, p.14.
[8] Heidegger (Martin), l’être et le temps, traduit de l allemand et annoté par Rudolf Boehm et Alphonse de Waelhens, édition Gallimard, Paris, 1964, p.259.
[9] Bachelard (Gaston), la formation de l’esprit scientifique, op.cit, p.14.
[10] Ullmo (Jean), la pensée scientifique moderne , édition Flammarion, Paris, 1969.p.69.
[11] Bachelard (Gaston), la philosophie du non, Essai D’ une nouvelle esprit scientifique ,op.cit. p.144
[12] Bachelard (Gaston), le Rationalisme appliqué, édition PUF, Paris, 1949.
[13] Bachelard (Gaston), la formation de l’esprit scientifique, édition PUF, Paris, 1938 . p.144.
[14] غاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد، مصدر مذكور، ص55.
المصادر والمراجع:
باشلار (غاستون) ، الفكر العلمي الجديد، ترجمة عادل العوا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة ثالثة، 1990.
باشلار (غاستون) ، العقلانية التطبيقية، ترجمة بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة أولى، 1984.
يفوت (سالم) ، فلسفة العلم في العقلانية المعاصرة، دار الطليعة، بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية ، 1989.
Bachelard (Gaston), la formation de l’esprit scientifique, édition PUF, Paris, 1938 .
Bachelard (Gaston), la philosophie du non, Essai D’ une nouvelle esprit scientifique, édition PUF, Paris,1940.
Bachelard(Gaston),l’activité rationaliste de la physique contemporaine, édition PUF, Paris, 1951.
Bachelard (Gaston), la formation de l’esprit scientifique , édition Vrin, Paris,1970
Heidegger (Martin), l’être et le temps, traduit de l allemand et annoté par Rudolf Boehm et Alphonse de Waelhens, édition Gallimard, Paris, 1964,
Ullmo (Jean), la pensée scientifique moderne , édition Flammarion, Paris, 1969.
كاتب فلسفي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق